ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
المبحث السادس: الأنبياء أفضل البشر
الأنبياء هم أفضل البشر على الإطلاق، هذه هي دلالة الكتاب والسنة والإجماع والنظر الصحيح.
أما الكتاب:
فقد قال سبحانه وتعالى مبيناً مراتب أوليائه: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
فالله قد رتب عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب وبدأ بالأعلى منهم وهم النبيون، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد شق عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة يرفع مع النبيين في الدرجات العلا فتكون منزلتهم دون منزلته فلا يصلون إليه ولا يرونه ولا يجالسونه، فنزلت الآية مبينة أن من أطاع الله ورسوله يكون من نعيمه في الجنة أن يتمكن من مجالسة الأنبياء ورؤيتهم وزيارتهم، فلا يفوته ذلك ولذلك قال سبحانه: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم} وقال: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} وهذه المعية والرفقة لا تعني تساويهم في الدرجة، بل هم متفاوتون، لكنهم يتزاورون ويتجالسون ويأنسون بقربهم كما كانوا في الدنيا، وهذا بفضل الله لاتباعهم الأنبياء, واقتدائهم بهم.
فالآية نص في تفضيل الأنبياء على البشر فهم أفضل أولياء الله وأرفعهم درجة على الإطلاق.
وذكر سبحانه جملة من الأنبياء في آيات من سورة الأنعام ثم قال في آخرها: {وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 86]. قال ابن سعدي في تفسير الآية: (وكلاًّ من هؤلاء الأنبياء والمرسلين فضلنا على العالمين، لأن درجات الفضائل أربع وهي التي ذكرها الله بقوله: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} فهؤلاء من الدرجة العليا) .
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]. قال الرازي مبيناً وجه الترابط بين هذه الآية والآيات قبلها: (اعلم أنه تعالى لما بين أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بين علو درجات الرسل وشرف مناصبهم) . وقال في معرض تفسيره للآية: (بين تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين) .
فالآية في ذكر الأنبياء خاصة وإن قيل في تفسير لفظ (الآل) فيها بأن المقصود به سائر المؤمنين من ذرية إبراهيم, وعمران, أنبياء وغير أنبياء، ويشهد لتخصيصها الأنبياء فقط, وأنهم هم المعنيون بتفضيلهم على العالمين دون غيرهم أمور:
1- قوله سبحانه: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى} والمراد الاصطفاء بالنبوة كما قاله الحسن وغيره . وكذا قد ورد الاصطفاء مراداً به الاصطفاء بالنبوة في عدد من آيات الكتاب عند ذكر النبيين، كقوله سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]. وقوله في موسى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} [الأعراف: 144]. وقوله: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ}.
2- أنه قد أطلق سبحانه وتعالى وصف الاصطفاء وعنى به الرسل خاصة في قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]. والرسل هم المصطفون من عباد الله الذين سلم عليهم في العالمين كما بينه سبحانه في كتابه جملة وتفصيلاً كقوله سبحانه: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 181]. فقوله: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} كقوله: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} وقال سبحانه: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79]. وقال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 108- 109]. وقال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 119- 120].
فكما أطلق سبحانه الاصطفاء في آية النمل وهو مقيد في الاصطفاء بالنبوة فكذا في آية آل عمران هذه.
3- أن الله قد ذكر في الآية النبيين آدم ونوحاً ثم ذكر آل إبراهيم وآل عمران وفيه إشارة إلى أن المراد بالآل الأنبياء خاصة من ذرية إبراهيم, وذرية عمران, لا عامة المؤمنين.
4- أن الله قد ذكر آل إبراهيم وآل عمران لأن الأنبياء بعد إبراهيم لم يكونوا إلا من ذريتهما، فجمع ذكرهم في لفظ الآل، وهو سبحانه قد ذكر آل إبراهيم، وآل عمران فقط، ويكون في المؤمنين من ليس من ذريتهم، مما يشهد بأن الآية خاصة بالنبيين.
5- أن قوله سبحانه: {عَلَى الْعَالَمِينَ} شاهد على أن المراد بالآية الأنبياء من سائر المؤمنين، ذلك أن اصطفاء المؤمنين وتفضيلهم على الكافرين أمر ظاهر ظهوراً يستغنى به عن الذكر، فكيف بتفضيل النبيين واصطفائهم على الكافرين، والنبيون معنيون في الآية بلا خلاف، فأن يكون المراد اصطفاء النبيين وتفضيلهم على سائر المؤمنين أولى، والله أعلم.
هذا، وقد قال بعض المفسرين بأن المراد بآل إبراهيم وآل عمران الأنبياء منهم، وقال بعضهم أن المراد بآل إبراهيم – إبراهيم نفسه .
والحاصل فإن الآية نص في تفضيل الأنبياء على البشر سواء كانت في الأنبياء خاصة وهو الأظهر، أو كانت فيهم و في أتباعهم من المؤمنين عامة، فإنه إذا كان المؤمنون أفضل البشر قد اصطفاهم الله على العالمين فالأنبياء هم الأفضل إطلاقاً بطريق الأولى.
أما السنة: فمن أدلتها على أن الأنبياء أفضل البشر:
قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أشد الناس بلاء قال: ((الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)) . وهذا صريح في أن الأنبياء أمثل البشر.
وقال صلى الله عليه وسلم في أبي بكر وعمر: ((هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين)) . و في هذا الاستثناء الدليل على أن الأنبياء أفضل الأولين والآخرين.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين)) .
واستدل ابن تيمية رحمه الله على فضل الأنبياء على سائر الناس بحديث: ((ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر الصديق)) .
أما الإجماع:
فقد قال ابن تيمية رحمه الله: (وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء) .
وقال: (الأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين وبعدهم الصديقون, والشهداء, والصالحون) . وذكر رحمه الله أن تفضيل بعض الفرق غير النبي على النبي مخالف لإجماع الأمة .
أما النظر الصحيح:
فإن العقل يقضي بكون الأنبياء خير الخلق وأفضلهم، لأنهم رسل الله, والواسطة بينه وبين خلقه في تبليغهم شرعه ومراده من عباده، وشرف الرسول من شرف المرسل وشرف الرسالة، وهم المصطفون من عباد الله, اصطفاهم الله واختارهم واجتباهم ولا يختار سبحانه من الخلق إلا أكرمهم عليه وأفضلهم عنده وأكملهم لديه، قال ابن القيم رحمه الله: (ويكفي في فضلهم وشرفهم أن الله سبحانه وتعالى اختصهم بوحيه، وجعلهم أمناء على رسالته، وواسطة بينه وبين عباده، وخصهم بأنواع كراماته فمنهم من اتخذه خليلاً، ومنهم من كلمه تكليماً، ومنهم من رفعه مكاناً عليًّا على سائرهم درجات، ولم يجعل لعباده وصولاً إليه إلا من طريقهم، ولا دخولاً إلى جنته إلا خلفهم، ولم يكرم أحداً منهم بكرامة إلا على أيديهم, فهم أقرب الخلق إليه وسيلة, وأرفعهم عنده درجة, وأحبهم إليه وأكرمهم عليه، وبالجملة فخير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد على أيديهم, وبهم عرف الله, وبهم عبد وأطيع, وبهم حصلت محابه تعالى في الأرض) .
وأعلى منازل الخلق في تحقيق العبودية لله عز وجل، ولقد حقق الأنبياء عبوديتهم لله فكانوا عباد الله المخلصين الذين بين سبحانه أنهم هم الذين ينجون من السيئات التي يزينها الشيطان، قال الشيطان – فبما حكاه الله -: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39- 40]. وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82]. وقد قال الله في حق يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [ يوسف: 24]. فالأنبياء من المخلصين الذين أخلصهم الله واصطفاهم من خلقه فحققوا العبودية له سبحانه ولذلك نعتهم الله بالعبودية التي حققوها فكانوا خير الخلق فيها وبها، قال سبحانه: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص: 45- 47]. وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] وقال عن سليمان: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] وعن أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] وعن نوح: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [ الإسراء: 30]. ونعت سبحانه خير خلقه بالعبودية في المقامات الشريفة فقال في الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [ الإسراء: 1] وقال في الدعوة: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} [ الجن: 9]. وقال في الوحي: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [ النجم: 10]. ولقد قام صلى الله عليه وسلم يصلي لله حتى تورمت قدماه، وتفطرتا، فقيل له: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) . فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد حققوا العبودية لله فهم أتم الخلق عبودية لله ولذلك فهم أكمل الخلق وأفضلهم.
وقد اتضح في المبحثين السابقين أمران ظاهرا الدلالة على أفضلية الأنبياء على البشر وهما:
أولاً: أن الأنبياء كانوا خيار أقوامهم قبل نبواتهم فقد عصمهم الله عما يصغر أقدراهم.
ثانياً: أن النبوة اختيار من الله واصطفاء لا تبلغ بكسب ولا بغيره. فجمع الله للأنبياء الفضل من أطرافه ميزهم على خلقه من قبل النبوة, ثم زادهم فضلاً عليهم بالنبوة، فلا يبلغ أحد منزلتهم.
الباب الثالث: وظائف الرسل وحَاجة البشريّة إلى الرّسُل
الفصل الأول: وظائف الرسل ومهماتهم.
المبحث الأول: البلاغ المبين
الرسل سفراء الله إلى عباده، وحملة وحيه، ومهمتهم الأولى هي إبلاغ هذه الأمانة التي تحملوها إلى عباد الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [ المائدة: 67 ]، والبلاغ يحتاج إلى الشجاعة وعدم خشية الناس، وهو يبلغهم ما يخالف معتقداتهم، ويأمرهم بما يستنكرونه، وينهاهم عمّا ألفوه، {الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللّهَ} [ الأحزاب: 39 ].
والبلاغ يكون بتلاوة النصوص التي أوحاها الله من غير نقصان ولا زيادة {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [ العنكبوت: 45 ]، {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} [ البقرة: 151 ]، فإذا كان الموحى به ليس نصاً يتلى، فيكون البلاغ ببيان الأوامر والنواهي والمعاني والعلوم التي أوحاها الله من غير تبديل ولا تغيير.
ومن البلاغ أن يوضح الرسول الوحي الذي أنزله الله لعباده، لأنّه أقدر من غيره على التعرف على معانيه ومراميه، وأعرف من غيره بمراد الله من وحيه، وفي ذلك يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ} [ النحل: 44 ].
والبيان من الرسول للوحي الإلهي قد يكون بالقول، فقد بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – أموراً كثيرة استشكلها أصحابه، كما بين المراد من الظلم في قوله تعالى: {الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ} [ الأنعام: 82 ]، فقد بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن المراد به الشرك، لا ظلم النفس بالذنوب.
وكما بيّن الرسول – صلى الله عليه وسلم – الآيات المجملة في الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك بقوله.
وكما يكون البيان بالقول يكون بالفعل، فقد كانت أفعال الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الصلاة والصدقة والحج وغير ذلك بياناً لكثير من النصوص القرآنية. وعندما يتولى الناس، ويعرضون عن دعوة الرسل، فإن الرسل لا يملكون غير البلاغ {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [ آل عمران: 20 ].
والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله عز وجل، لم يقل شيئاً من رأيه فيما يتعلق بالتبليغ، بل ليس عليه إلا بلاغ الرسالة من الله إلى الناس، وتلاوة آياته على الناس، وتعليمهم الحكمة والتبيان، وذلك معنى كونه صلى الله عليه وسلم رسول الله فأمره ونهيه تبليغ لأمره ونهيه، وأخباره وقصصه تبليغ لما قصه الله وأخبر به، ولذا كان طاعته طاعة لله عز وجل، ومعصيته معصية لله عز وجل، وتكذيبه تكذيباً لإخبار الله عز وجل في أنه رسوله. قال الله تبارك وتعالى {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 79 – 80]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأنفال:20 – 21]، وقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]، وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، وقال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} [الشورى:48]، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7]، وقال تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} [فاطر:23]، وقال {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص:65]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إليه وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6]، وقال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:22 – 23] وقال {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} [الأعلى:9 – 10]، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 – 22]، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7] وغير ذلك من الآيات {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 – 5] وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: عن أبي أمامة رضي الله عنه أَنَّه سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليدخلن الجنَّةَ بشفاعةِ رجلٍ ليس بنبيٍّ مثل الحيين – أو مثل أحد الحيين – ربيعة ومضر))، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ وما ربيعة من مضر؟ قال: ((إِنَّما أقولُ ما أقول)) ، وله عن عبدالله بن عمر وقال كُنْتُ أكتبُ كلَّ شيءٍ أسمعه من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أريدُ حفظه، فنهتني قريشٌ فقالوا: إِنَّك تكتبُ كلَّ شيءٍ تسمعه من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يتكلَّم في الغضب والرِّضا، فأمسكتُ عن الكتاب حتى ذكرت ذلك لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((اكتُبْ فوالذي نفسي بيده ما خرج منِّي إلاّ الحق)) وله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا أقول إلا حقاً)). قال بعض أصحابه فإِنَّك تداعبنا، قال: ((إِنِّي لا أقولُ إلاّ حقّاً)) وللبزار عنه رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أخبرتكم أَنَّه من عند الله فهو الذي لا شك فيه)) وغير ذلك من الأحاديث، ويكفي في ذلك قول الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46] الآيات.
وأما الرسل فقد تبين أنهم هم الوسائط بيننا وبين الله عز وجل، في أمره ونهيه ووعده ووعيده وخبره، فعلينا أن نصدقهم في كل ما أخبروا به، ونطيعهم فيما أوجبوا وأمروا، وعلينا أن نصدق بجميع أنبياء الله عز وجل، لا نفرق بين أحد منهم، ومن سبَّ واحدا منهم كان كافراً مرتداً مباح الدم.
المبحث الثاني: الدعوة إلى الله
تمهيد
لا تقف مهمّة الرسل عند حدّ بيان الحقِّ وإبلاغه، بل عليهم دعوة الناس إلى الأخذ بدعوتهم، والاستجابة لها، وتحقيقها في أنفسهم اعتقاداً وقولاً وعملاً، وهم في ذلك ينطلقون من منطلق واحد، فهم يقولون للناس: أنتم عباد الله، والله ربكم وإلهكم، والله أرسلنا لنعرفكم كيف تعبدونه، ولأننا رسل الله مبعوثون من عنده، فيجب عليكم أن تطيعونا وتتبعونا، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [ النحل: 36 ] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [ الأنبياء: 25 ]. وكل رسول قال لقومه: {فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ}[ الشعراء: 108، 126، 144، 150، 163، 179].
وقد بذل الرسل في سبيل دعوة الناس إلى الله جهوداً عظيمة، وحسبك في هذا أن تقرأ سورة نوح لترى الجهد الذي بذله على مدار تسعمائة وخمسين عاماً، فقد دعاهم ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، واستعمل أساليب الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وحاول أن يفتح عقولهم، وأن يوجهها إلى ما في الكون من آيات، ولكنهم أعرضوا، {قَالَ نُوحٌ رّبّ إِنّهُمْ عَصَوْنِي وَاتّبَعُواْ مَن لّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَسَاراً} [ نوح: 21 ]
المطلب الأول: دعوة الرّسُل
النظر في دعوة الرسل مجال خصب يدلنا على مدى صدقهم، فقد جاءت الرسل بمنهج متكامل لإصلاح الإنسان، ولإصلاح المجتمع الإنساني، ودين كهذا يقول الذين جاؤوا به إنّه منزل من عند الله لا بدّ أن يكون في غاية الكمال، خالياً من النقائص والعيوب، لا يتعارض مع فطرة الإنسان، وسنن الكون، وقد وجهنا القرآن إلى هذا النوع من الاستدلال، فقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
فكونه وحدة متكاملة يصدق بعضه بعضاً، لا تناقض فيه ولا اختلاف – دليل واضح على صدق الذي جاء به.
والنظر في المقاصد التي تدعو إليها الرسل، والفضائل والقيم التي يُنادون بها كلُّ ذلك من أعظم الأدلة على صدقهم، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [ الإسراء: 9 ].
ولقد ألَّف العلماء مؤلفات في بيان كمال هذا الدين وشموله وبيان حكمة التشريع، وبيان القواعد والأسس التي تجعل هذا الدين بناء محكماً، يردد الناس النظر فيه فلا يجدون فيه عيباً ولا نقصاً.
وقد ميز الله البشر بالعقل، وأودع عقولهم إدراك قبح القبيح، وإدراك حسن الحسن، إلاّ أنّ رحمته جلّ وعلا اقتضت ألاّ يعذب خلقه على تركهم الحسن وفعلهم القبيح ما لم يُقِم عليهم الحجةَ بإرسال الرسل.
(وقد سئل أعرابيّ: بم عرفت أنّ محمداً رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل: ليته ينهى عنه، ولا نهى عن شيء، فقال العقل: ليته أمر به) . وهذا الذي استدل به الأعرابي في غاية الجودة، فإن الرسل جاءت من عند الله بعلوم وشرائع يعلم العاقل المنصف عند التأمل فيها أنّه لا يمكن أن تكون آراء البشر ولا أفكارهم.
المطلب الثاني: دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
والناظر في دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يكون مكابراً أعظم المكابرة إن لم يعتبر ولم يؤمن، فنبينا عليه السلام جاء بهذا القرآن الذي عجزت الإنس والجنُّ عن الإتيان بمثله، وقد حوى من الأخبار الماضية والآتية، والعلوم المختلفة ما يخضع له المنصف، ويجعله يسبح بحمد الله طويلاً.
هذا الكتاب وتلك العلوم تصل إلينا على يد رجل أميّ، لم يمسك بالقلم يوماً، ولم يكن يقرأ ما سطره العلماء والكتاب من قبل {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [ العنكبوت: 48 ].
ليس أمراً عادياً أن يتحول رجل أميّ بين عشية وضحاها إلى معلم بشرية، يبذل العلم للناس، ويقوّم علوم السابقين، ويبين ما فيها من تحريف وتغير. لقد كان هذا الدليل يجول في نفوس أهل مكة، فهم يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيهم بما أتاهم به، ويعلمون أُميته، ولذلك لم يكن منهم إلا التمحل وجحود الحقّ بعد معرفته {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] لقد وصلت بهم السفاهة إلى الزعم بأن الذي يأتي محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا العلم حداد رومي كان بمكة، وإنه لفرية مضحكة {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [ النحل: 103 ].
الأنبياء هم أفضل البشر على الإطلاق، هذه هي دلالة الكتاب والسنة والإجماع والنظر الصحيح.
أما الكتاب:
فقد قال سبحانه وتعالى مبيناً مراتب أوليائه: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
فالله قد رتب عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب وبدأ بالأعلى منهم وهم النبيون، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد شق عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة يرفع مع النبيين في الدرجات العلا فتكون منزلتهم دون منزلته فلا يصلون إليه ولا يرونه ولا يجالسونه، فنزلت الآية مبينة أن من أطاع الله ورسوله يكون من نعيمه في الجنة أن يتمكن من مجالسة الأنبياء ورؤيتهم وزيارتهم، فلا يفوته ذلك ولذلك قال سبحانه: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم} وقال: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} وهذه المعية والرفقة لا تعني تساويهم في الدرجة، بل هم متفاوتون، لكنهم يتزاورون ويتجالسون ويأنسون بقربهم كما كانوا في الدنيا، وهذا بفضل الله لاتباعهم الأنبياء, واقتدائهم بهم.
فالآية نص في تفضيل الأنبياء على البشر فهم أفضل أولياء الله وأرفعهم درجة على الإطلاق.
وذكر سبحانه جملة من الأنبياء في آيات من سورة الأنعام ثم قال في آخرها: {وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 86]. قال ابن سعدي في تفسير الآية: (وكلاًّ من هؤلاء الأنبياء والمرسلين فضلنا على العالمين، لأن درجات الفضائل أربع وهي التي ذكرها الله بقوله: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} فهؤلاء من الدرجة العليا) .
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]. قال الرازي مبيناً وجه الترابط بين هذه الآية والآيات قبلها: (اعلم أنه تعالى لما بين أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بين علو درجات الرسل وشرف مناصبهم) . وقال في معرض تفسيره للآية: (بين تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين) .
فالآية في ذكر الأنبياء خاصة وإن قيل في تفسير لفظ (الآل) فيها بأن المقصود به سائر المؤمنين من ذرية إبراهيم, وعمران, أنبياء وغير أنبياء، ويشهد لتخصيصها الأنبياء فقط, وأنهم هم المعنيون بتفضيلهم على العالمين دون غيرهم أمور:
1- قوله سبحانه: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى} والمراد الاصطفاء بالنبوة كما قاله الحسن وغيره . وكذا قد ورد الاصطفاء مراداً به الاصطفاء بالنبوة في عدد من آيات الكتاب عند ذكر النبيين، كقوله سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]. وقوله في موسى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} [الأعراف: 144]. وقوله: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ}.
2- أنه قد أطلق سبحانه وتعالى وصف الاصطفاء وعنى به الرسل خاصة في قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]. والرسل هم المصطفون من عباد الله الذين سلم عليهم في العالمين كما بينه سبحانه في كتابه جملة وتفصيلاً كقوله سبحانه: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 181]. فقوله: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} كقوله: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} وقال سبحانه: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79]. وقال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 108- 109]. وقال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 119- 120].
فكما أطلق سبحانه الاصطفاء في آية النمل وهو مقيد في الاصطفاء بالنبوة فكذا في آية آل عمران هذه.
3- أن الله قد ذكر في الآية النبيين آدم ونوحاً ثم ذكر آل إبراهيم وآل عمران وفيه إشارة إلى أن المراد بالآل الأنبياء خاصة من ذرية إبراهيم, وذرية عمران, لا عامة المؤمنين.
4- أن الله قد ذكر آل إبراهيم وآل عمران لأن الأنبياء بعد إبراهيم لم يكونوا إلا من ذريتهما، فجمع ذكرهم في لفظ الآل، وهو سبحانه قد ذكر آل إبراهيم، وآل عمران فقط، ويكون في المؤمنين من ليس من ذريتهم، مما يشهد بأن الآية خاصة بالنبيين.
5- أن قوله سبحانه: {عَلَى الْعَالَمِينَ} شاهد على أن المراد بالآية الأنبياء من سائر المؤمنين، ذلك أن اصطفاء المؤمنين وتفضيلهم على الكافرين أمر ظاهر ظهوراً يستغنى به عن الذكر، فكيف بتفضيل النبيين واصطفائهم على الكافرين، والنبيون معنيون في الآية بلا خلاف، فأن يكون المراد اصطفاء النبيين وتفضيلهم على سائر المؤمنين أولى، والله أعلم.
هذا، وقد قال بعض المفسرين بأن المراد بآل إبراهيم وآل عمران الأنبياء منهم، وقال بعضهم أن المراد بآل إبراهيم – إبراهيم نفسه .
والحاصل فإن الآية نص في تفضيل الأنبياء على البشر سواء كانت في الأنبياء خاصة وهو الأظهر، أو كانت فيهم و في أتباعهم من المؤمنين عامة، فإنه إذا كان المؤمنون أفضل البشر قد اصطفاهم الله على العالمين فالأنبياء هم الأفضل إطلاقاً بطريق الأولى.
أما السنة: فمن أدلتها على أن الأنبياء أفضل البشر:
قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أشد الناس بلاء قال: ((الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)) . وهذا صريح في أن الأنبياء أمثل البشر.
وقال صلى الله عليه وسلم في أبي بكر وعمر: ((هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين)) . و في هذا الاستثناء الدليل على أن الأنبياء أفضل الأولين والآخرين.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين)) .
واستدل ابن تيمية رحمه الله على فضل الأنبياء على سائر الناس بحديث: ((ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر الصديق)) .
أما الإجماع:
فقد قال ابن تيمية رحمه الله: (وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء) .
وقال: (الأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين وبعدهم الصديقون, والشهداء, والصالحون) . وذكر رحمه الله أن تفضيل بعض الفرق غير النبي على النبي مخالف لإجماع الأمة .
أما النظر الصحيح:
فإن العقل يقضي بكون الأنبياء خير الخلق وأفضلهم، لأنهم رسل الله, والواسطة بينه وبين خلقه في تبليغهم شرعه ومراده من عباده، وشرف الرسول من شرف المرسل وشرف الرسالة، وهم المصطفون من عباد الله, اصطفاهم الله واختارهم واجتباهم ولا يختار سبحانه من الخلق إلا أكرمهم عليه وأفضلهم عنده وأكملهم لديه، قال ابن القيم رحمه الله: (ويكفي في فضلهم وشرفهم أن الله سبحانه وتعالى اختصهم بوحيه، وجعلهم أمناء على رسالته، وواسطة بينه وبين عباده، وخصهم بأنواع كراماته فمنهم من اتخذه خليلاً، ومنهم من كلمه تكليماً، ومنهم من رفعه مكاناً عليًّا على سائرهم درجات، ولم يجعل لعباده وصولاً إليه إلا من طريقهم، ولا دخولاً إلى جنته إلا خلفهم، ولم يكرم أحداً منهم بكرامة إلا على أيديهم, فهم أقرب الخلق إليه وسيلة, وأرفعهم عنده درجة, وأحبهم إليه وأكرمهم عليه، وبالجملة فخير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد على أيديهم, وبهم عرف الله, وبهم عبد وأطيع, وبهم حصلت محابه تعالى في الأرض) .
وأعلى منازل الخلق في تحقيق العبودية لله عز وجل، ولقد حقق الأنبياء عبوديتهم لله فكانوا عباد الله المخلصين الذين بين سبحانه أنهم هم الذين ينجون من السيئات التي يزينها الشيطان، قال الشيطان – فبما حكاه الله -: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39- 40]. وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82]. وقد قال الله في حق يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [ يوسف: 24]. فالأنبياء من المخلصين الذين أخلصهم الله واصطفاهم من خلقه فحققوا العبودية له سبحانه ولذلك نعتهم الله بالعبودية التي حققوها فكانوا خير الخلق فيها وبها، قال سبحانه: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص: 45- 47]. وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] وقال عن سليمان: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] وعن أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] وعن نوح: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [ الإسراء: 30]. ونعت سبحانه خير خلقه بالعبودية في المقامات الشريفة فقال في الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [ الإسراء: 1] وقال في الدعوة: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} [ الجن: 9]. وقال في الوحي: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [ النجم: 10]. ولقد قام صلى الله عليه وسلم يصلي لله حتى تورمت قدماه، وتفطرتا، فقيل له: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) . فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد حققوا العبودية لله فهم أتم الخلق عبودية لله ولذلك فهم أكمل الخلق وأفضلهم.
وقد اتضح في المبحثين السابقين أمران ظاهرا الدلالة على أفضلية الأنبياء على البشر وهما:
أولاً: أن الأنبياء كانوا خيار أقوامهم قبل نبواتهم فقد عصمهم الله عما يصغر أقدراهم.
ثانياً: أن النبوة اختيار من الله واصطفاء لا تبلغ بكسب ولا بغيره. فجمع الله للأنبياء الفضل من أطرافه ميزهم على خلقه من قبل النبوة, ثم زادهم فضلاً عليهم بالنبوة، فلا يبلغ أحد منزلتهم.
الباب الثالث: وظائف الرسل وحَاجة البشريّة إلى الرّسُل
الفصل الأول: وظائف الرسل ومهماتهم.
المبحث الأول: البلاغ المبين
الرسل سفراء الله إلى عباده، وحملة وحيه، ومهمتهم الأولى هي إبلاغ هذه الأمانة التي تحملوها إلى عباد الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [ المائدة: 67 ]، والبلاغ يحتاج إلى الشجاعة وعدم خشية الناس، وهو يبلغهم ما يخالف معتقداتهم، ويأمرهم بما يستنكرونه، وينهاهم عمّا ألفوه، {الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللّهَ} [ الأحزاب: 39 ].
والبلاغ يكون بتلاوة النصوص التي أوحاها الله من غير نقصان ولا زيادة {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [ العنكبوت: 45 ]، {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} [ البقرة: 151 ]، فإذا كان الموحى به ليس نصاً يتلى، فيكون البلاغ ببيان الأوامر والنواهي والمعاني والعلوم التي أوحاها الله من غير تبديل ولا تغيير.
ومن البلاغ أن يوضح الرسول الوحي الذي أنزله الله لعباده، لأنّه أقدر من غيره على التعرف على معانيه ومراميه، وأعرف من غيره بمراد الله من وحيه، وفي ذلك يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ} [ النحل: 44 ].
والبيان من الرسول للوحي الإلهي قد يكون بالقول، فقد بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – أموراً كثيرة استشكلها أصحابه، كما بين المراد من الظلم في قوله تعالى: {الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ} [ الأنعام: 82 ]، فقد بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن المراد به الشرك، لا ظلم النفس بالذنوب.
وكما بيّن الرسول – صلى الله عليه وسلم – الآيات المجملة في الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك بقوله.
وكما يكون البيان بالقول يكون بالفعل، فقد كانت أفعال الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الصلاة والصدقة والحج وغير ذلك بياناً لكثير من النصوص القرآنية. وعندما يتولى الناس، ويعرضون عن دعوة الرسل، فإن الرسل لا يملكون غير البلاغ {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [ آل عمران: 20 ].
والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله عز وجل، لم يقل شيئاً من رأيه فيما يتعلق بالتبليغ، بل ليس عليه إلا بلاغ الرسالة من الله إلى الناس، وتلاوة آياته على الناس، وتعليمهم الحكمة والتبيان، وذلك معنى كونه صلى الله عليه وسلم رسول الله فأمره ونهيه تبليغ لأمره ونهيه، وأخباره وقصصه تبليغ لما قصه الله وأخبر به، ولذا كان طاعته طاعة لله عز وجل، ومعصيته معصية لله عز وجل، وتكذيبه تكذيباً لإخبار الله عز وجل في أنه رسوله. قال الله تبارك وتعالى {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 79 – 80]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأنفال:20 – 21]، وقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]، وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، وقال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} [الشورى:48]، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7]، وقال تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} [فاطر:23]، وقال {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص:65]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إليه وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6]، وقال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:22 – 23] وقال {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} [الأعلى:9 – 10]، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 – 22]، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7] وغير ذلك من الآيات {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 – 5] وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: عن أبي أمامة رضي الله عنه أَنَّه سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليدخلن الجنَّةَ بشفاعةِ رجلٍ ليس بنبيٍّ مثل الحيين – أو مثل أحد الحيين – ربيعة ومضر))، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ وما ربيعة من مضر؟ قال: ((إِنَّما أقولُ ما أقول)) ، وله عن عبدالله بن عمر وقال كُنْتُ أكتبُ كلَّ شيءٍ أسمعه من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أريدُ حفظه، فنهتني قريشٌ فقالوا: إِنَّك تكتبُ كلَّ شيءٍ تسمعه من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يتكلَّم في الغضب والرِّضا، فأمسكتُ عن الكتاب حتى ذكرت ذلك لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((اكتُبْ فوالذي نفسي بيده ما خرج منِّي إلاّ الحق)) وله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا أقول إلا حقاً)). قال بعض أصحابه فإِنَّك تداعبنا، قال: ((إِنِّي لا أقولُ إلاّ حقّاً)) وللبزار عنه رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أخبرتكم أَنَّه من عند الله فهو الذي لا شك فيه)) وغير ذلك من الأحاديث، ويكفي في ذلك قول الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46] الآيات.
وأما الرسل فقد تبين أنهم هم الوسائط بيننا وبين الله عز وجل، في أمره ونهيه ووعده ووعيده وخبره، فعلينا أن نصدقهم في كل ما أخبروا به، ونطيعهم فيما أوجبوا وأمروا، وعلينا أن نصدق بجميع أنبياء الله عز وجل، لا نفرق بين أحد منهم، ومن سبَّ واحدا منهم كان كافراً مرتداً مباح الدم.
المبحث الثاني: الدعوة إلى الله
تمهيد
لا تقف مهمّة الرسل عند حدّ بيان الحقِّ وإبلاغه، بل عليهم دعوة الناس إلى الأخذ بدعوتهم، والاستجابة لها، وتحقيقها في أنفسهم اعتقاداً وقولاً وعملاً، وهم في ذلك ينطلقون من منطلق واحد، فهم يقولون للناس: أنتم عباد الله، والله ربكم وإلهكم، والله أرسلنا لنعرفكم كيف تعبدونه، ولأننا رسل الله مبعوثون من عنده، فيجب عليكم أن تطيعونا وتتبعونا، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [ النحل: 36 ] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [ الأنبياء: 25 ]. وكل رسول قال لقومه: {فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ}[ الشعراء: 108، 126، 144، 150، 163، 179].
وقد بذل الرسل في سبيل دعوة الناس إلى الله جهوداً عظيمة، وحسبك في هذا أن تقرأ سورة نوح لترى الجهد الذي بذله على مدار تسعمائة وخمسين عاماً، فقد دعاهم ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، واستعمل أساليب الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وحاول أن يفتح عقولهم، وأن يوجهها إلى ما في الكون من آيات، ولكنهم أعرضوا، {قَالَ نُوحٌ رّبّ إِنّهُمْ عَصَوْنِي وَاتّبَعُواْ مَن لّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَسَاراً} [ نوح: 21 ]
المطلب الأول: دعوة الرّسُل
النظر في دعوة الرسل مجال خصب يدلنا على مدى صدقهم، فقد جاءت الرسل بمنهج متكامل لإصلاح الإنسان، ولإصلاح المجتمع الإنساني، ودين كهذا يقول الذين جاؤوا به إنّه منزل من عند الله لا بدّ أن يكون في غاية الكمال، خالياً من النقائص والعيوب، لا يتعارض مع فطرة الإنسان، وسنن الكون، وقد وجهنا القرآن إلى هذا النوع من الاستدلال، فقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
فكونه وحدة متكاملة يصدق بعضه بعضاً، لا تناقض فيه ولا اختلاف – دليل واضح على صدق الذي جاء به.
والنظر في المقاصد التي تدعو إليها الرسل، والفضائل والقيم التي يُنادون بها كلُّ ذلك من أعظم الأدلة على صدقهم، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [ الإسراء: 9 ].
ولقد ألَّف العلماء مؤلفات في بيان كمال هذا الدين وشموله وبيان حكمة التشريع، وبيان القواعد والأسس التي تجعل هذا الدين بناء محكماً، يردد الناس النظر فيه فلا يجدون فيه عيباً ولا نقصاً.
وقد ميز الله البشر بالعقل، وأودع عقولهم إدراك قبح القبيح، وإدراك حسن الحسن، إلاّ أنّ رحمته جلّ وعلا اقتضت ألاّ يعذب خلقه على تركهم الحسن وفعلهم القبيح ما لم يُقِم عليهم الحجةَ بإرسال الرسل.
(وقد سئل أعرابيّ: بم عرفت أنّ محمداً رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل: ليته ينهى عنه، ولا نهى عن شيء، فقال العقل: ليته أمر به) . وهذا الذي استدل به الأعرابي في غاية الجودة، فإن الرسل جاءت من عند الله بعلوم وشرائع يعلم العاقل المنصف عند التأمل فيها أنّه لا يمكن أن تكون آراء البشر ولا أفكارهم.
المطلب الثاني: دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
والناظر في دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يكون مكابراً أعظم المكابرة إن لم يعتبر ولم يؤمن، فنبينا عليه السلام جاء بهذا القرآن الذي عجزت الإنس والجنُّ عن الإتيان بمثله، وقد حوى من الأخبار الماضية والآتية، والعلوم المختلفة ما يخضع له المنصف، ويجعله يسبح بحمد الله طويلاً.
هذا الكتاب وتلك العلوم تصل إلينا على يد رجل أميّ، لم يمسك بالقلم يوماً، ولم يكن يقرأ ما سطره العلماء والكتاب من قبل {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [ العنكبوت: 48 ].
ليس أمراً عادياً أن يتحول رجل أميّ بين عشية وضحاها إلى معلم بشرية، يبذل العلم للناس، ويقوّم علوم السابقين، ويبين ما فيها من تحريف وتغير. لقد كان هذا الدليل يجول في نفوس أهل مكة، فهم يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيهم بما أتاهم به، ويعلمون أُميته، ولذلك لم يكن منهم إلا التمحل وجحود الحقّ بعد معرفته {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] لقد وصلت بهم السفاهة إلى الزعم بأن الذي يأتي محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا العلم حداد رومي كان بمكة، وإنه لفرية مضحكة {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [ النحل: 103 ].