والأحاديث في هذا الباب كثيرة، نكتفي منها بهذا القدر.
وأما الإجماع: فقد نقل غير واحد من العلماء إجماع الأمة على أن المشرك يخلد في النار.
وأما أقوال السلف في ذلك: فهي كثيرة، منها:
أ- قال الإمام أحمد بن حنبل: (ويخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم، أو يرد فريضة من فرائض الله عز وجل جاحداً بها...) .
ب- قد عقد الإمام البخاري لذلك باباً في صحيحه، فقال: (باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا الشرك) .
ج- وقال العلامة ابن جرير – رحمه الله – حول قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]: (ومعنى الكلام: ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، وإلى الذين من قبلك، بمعنى وإلى الذين من قبلك من الرسل من ذلك، مثل الذي أوحي إليك منه، فاحذر أن تشرك بالله شيئاً فتهلك، ومعنى قوله: ولتكونن من الهالكين بالإشراك بالله إن أشركت به شيئاً) .
د- قال القرطبي: تعليقاً على حديث: ((من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)) : إن من مات على الشرك لا يدخل الجنة, ولا يناله من الله رحمة, ويخلد في النار أبد الآباد، من غير انقطاع عذاب، ولا تصرم آماد .
هـ- قال النووي: (أما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي – اليهودي والنصراني -، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا بين من خالف ملة الإسلام, وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده ما يكفر بجحده غير ذلك) .
و- ويقول شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية: (ومن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان أن يدعى غير الله، فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإن الشرك لظلم عظيم...) .
ز- قال ابن كثير: (أخبر – تعالى – أنه لا يغفر أن يشرك به، أي: لا يغفر من لقيه وهو مشرك به، ويغفر ما دون ذلك أي: من الذنوب لمن يشاء من عباده) .
ح- قال ابن القيم: (ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله –عز وجل- حرم الجنة على أهله فلا تدخل الجنة نفس مشركة، وإنما يدخلها أهل التوحيد...) .
ط- وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -: (أن من لقيه لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار، ولو كان من أعبد الناس) .
ي- وقال أحمد بن حجر آل بوطامي الشافعي – رحمه الله -: (الشرك نوعان: أكبر وأصغر، فمن خلص منهما وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر وجبت له النار)
المطلب الثالث: أقسام الشرك الأكبر
المسألة الأولى: الشرك في الربوبية
أولاً: تعريف الشرك في الربوبية
هو اعتقاد متصرف مع الله عز وجل في أي شيء من تدبير الكون، من إيجاد أو إعدام، أو إحياء أو إماتة، جلب خير أو دفع شر، أو غير ذلك من معاني الربوبية، أو اعتقاد منازع له في شيء من مقتضيات أسمائه وصفاته كعلم الغيب وكالعظمة والكبرياء ونحو ذلك وقال الله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 2-3] الآيات، وقال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] الآية، وقال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38].
وقال تبارك وتعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] الآيات، وقال تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] الآية، وقال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} [البقرة: 255] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: العظمة إزاري، الكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما أسكنته ناري)) وهو في الصحيح .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (... إن الرب سبحانه هو الملك المدبر، المعطي المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل، فمن شهد أن المعطي أو المانع، أو الضار أو النافع, أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته) .
وقال في موضع آخر: (فأما الأول – الشرك في الربوبية – فهو إثبات فاعل مستقل غير الله، كمن يجعل الحيوان مستقلاً بإحداث فعله، ويجعل الكواكب، أو الأجسام الطبيعية، أو العقول, أو النفوس، أو الملائكة، أو غير ذلك مستقلاً بشيء من الأحداث، فهؤلاء حقيقة قولهم: تعطيل الحوادث عن الفاعل...) .
أو بعبارة مختصرة يقال: من أشرك مع الله غيره في خصائص الربوبية أو أنكر شيئاً منها، أو شبهه بغيره، أو شبه غيره به، يعد مشركاً بالله، سواء كان في ذاته, أو أفعاله, أو أوصافه.
وهذا الشرك ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفوراً .
ثانياً: أنواع الشرك في الربوبية والأسماء والصفات
النوع الأول: شرك التعطيل؛ وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}، وقال تعالى مخبراً عنه ما قال لهامان: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا}.
وإنما قلنا لهذا التعطيل بأنه شرك؛ لأن الشرك والتعطيل متلازمان، فكل معطل مشرك، وكل مشرك معطل ، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وصفاته، ولكنه عطل حق التوحيد. وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل، وهو على ثلاثة أقسام:
1- تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه, ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدوماً أصلاً، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها بالعقول والنفوس ، ومنه الإلحاد بإنكار الخالق للكون.
2- تعطيل الصانع – سبحانه – عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه, وأوصافه, وأفعاله، ومن هذا الشرك من عطل أسماء الرب تعالى, وأوصافه, وأفعاله من غلاة الجهمية، والقرامطة، فلم يثبتوا له اسماً ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه؛ إذ كمال الذات بأسمائه وصفاته.
ويدخل في ذلك شرك منكري الرسالة للرسل، وشرك منكري القدر، وشرك التشريع والتحليل والتحريم من غير الله.
3- تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد، ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثم خالق ومخلوق، ولا هاهنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه.
النوع الثاني: شرك الأنداد من غير تعطيل: وهو من جعل مع الله إلهاً آخر, ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، ومن ذلك:
1- شرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهاً، وأمه إلهاً.
2- شرك المجوس : القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة.
3- شرك القدرية : القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته، ولهذا كانوا أشباه المجوس.
4- شرك الذي حاج إبراهيم في ربه: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]، فهذا جعل نفسه نداً لله تعالى، يحيى ويميت بزعمه، كما يحيى الله ويميت، فألزمه إبراهيم أن طرد قولك أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي بها الله منها، وليس هذا انتقالاً كما زعم بعض أهل الجدل، بل إلزاماً على طرد الدليل إن كان حقاً.
5- شرك فرعون حينما قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وقوله تعالى حكاية عن قول قومه له: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]، كما هو في بعض القراءات .
6- وأيضاً من هذا النوع شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها أرباباً مدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم.
7- ومن هذا النوع: شرك من أسند النعمة إلى غير الله، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}.
8- ومن هذا شرك عباد الشمس، وعباد النار، وغيرهم، فمن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة، ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة، ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة، وأنه إذا خصه بعبادته, والتبتل إليه, والانقطاع إليه أقبل عليه واعتنى به، ومنهم من يزعم أن معبوده الأدنى يقربه إلى المعبود الذي هو فوقه، والفوقاني يقربه إلى من هو فوقه حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه وتعالى!! فتارة تكثر الآلهة والوسائط وتارة تقل .
فيستنتج مما سبق أن هذا القسم من الشرك ينقسم قسمين:
1- نوع في توحيد الربوبية، ويكون من وجهين:
أ- بالتعطيل، وذلك:
إما بالإلحاد، كقول فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، ويدخل فيه الشيوعية, والاشتراكية, والقومية, وغيرها من الاتجاهات الهدامة التي تجددت.
وإما بتعطيل المصنوع عن صانعه: كالقول بقدم العالم.
وإما بتعطيل معاملة الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد: كالقول بوحدة الوجود.
وإما تعطيل الصانع عن أفعاله: كمنكري إرسال الرسل، ومنكري القدر، ومنكري البعث والنشور، وغيرها.
ب- بالأنداد، وذلك:
إما بدعوى التصرف في الكون من الغير كمشركي قوم إبراهيم الصابئة، والمتصوفة القائلين بالغوث, والقطب, والأوتاد، والأبدال وتصرفهم كما يدعون.
وإما بإعطاء السلطة لأحد غير الله في التحليل والتحريم، كما كان في النصارى، وفي بعض حكام هذه الأمة، والقوانين الوضعية وغيرها.
وإما بدعوى التأثير في الكون من النجوم والهياكل، كالصابئة من قوم إبراهيم، أو الأولياء، أو التمائم والأحجبة.
2- نوع في توحيد الأسماء والصفات، وذلك من وجهين أيضاً:
أ- بالتعطيل: وذلك بتعطيل الصانع عن كماله المقدس: كالجهمية الغلاة، والقرامطة الذين أنكروا أسماء الله عز وجل وصفاته.
ب- بالأنداد:
1- إثبات صفات الصانع للمخلوقين: وذلك؛ بالتمثيل في أسمائه أو صفاته، كالشرك في علم الباري المحيط، ويدخل في ذلك: التنجيم، والعرافة, والكهانة، وادعاء علم المغيبات لأحد غير الله، وكالشرك في قدرة الله الكاملة، وذلك بادعاء التصرف للغير في ملكوت الله، وخوف الضرر أو التماس النفع من الغير، أو بالاستغاثة من الغير، أو تسمية غيره غوثاً، أو بالسحر والتسحر وغيرها.
2- أو بإثبات صفات المخلوق للصانع جل وعلا: كاليهود المغضوب عليهم الذين شبهوا الله بصفات المخلوقين، وهكذا النصارى في قولهم بالنبوة والأبوة وما إلى ذلك من صفات المخلوقات لله جل وعلا، ويدخل في هذا النوع كل من شبه الله بخلقه ومثله بهم من هذه الأمة.
وكل هذه الأنواع السالفة الذكر يعتبر من الشرك الأكبر، وينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفوراً باتفاق العلماء
ثالثاً: الفرق التي أشركت بالربوبية
1- المجوس: (الأصلية) قالوا بالأصلين: النور والظلمة، وقالوا: إن النور أزلي، والظلمة محدثة.
2- 2- الثنوية: (أصحاب الاثنين الأزليين): الذين يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان، بخلاف المجوس الذين قالوا بحدوث الظلام، لكن قالوا باختلافهما في الجوهر، والطبع، والفعل، والخبر، والمكان، والأجناس، والأبدان، والأرواح، ولم يقولوا بتماثلهما في الصفات والأفعال، كما ترى، وإن قالوا بتساويهما في القدم.
3- 3- المانوية: (أصحاب ماني بن فاتك): قالوا: إن العالم مصنوع من أصلين قديمين، ولكن قالوا باختلافهما في النفس، والصورة، والفعل، التدبير.
4- 4- النصارى: (القائلون بالتثليث): فالنصارى لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضها عن بعض، بل هم متفقون على أنه صانع واحد يقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، ويقولون: واحد بالذات ثلاثة بالأقنوم. أما الأقانيم فإنهم عجزوا عن تفسيرها.
5- وقولهم هذا متناقض أيما تناقض, وتصوره كاف في رده، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى, وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين, ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولاً.
6- وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولاً، وامرأته قولاً آخر، وابنه قولاً ثالثاً) .
7- وقال ابن القيم رحمه الله في معرض رده عليهم: (أما خبر ما عندكم أنتم فلا نعلم أمة أشد اختلافاً في معبودها منكم؛ فلو سألت الرجل، وامرأته، وابنته، وأمه، وأباه، عن دينهم لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر) .
8- بل قيل فيهم: (لو توجهت إلى أي نصراني على وجه الأرض، وطلبت منه أن يصور لك حقيقة دينه، وما يعتقده في طبيعة المسيح تصويراً دقيقاً – لما استطاع ذلك) .
9- هذا وقد بين الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه (إظهار الحق) ما عندهم من التناقض، وكذلك الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (محاضرات في النصرانية).
10- 5- القدرية: هم في الحقيقة مشركون في الربوبية، وهذا لازم لمذهبهم؛ لأنهم يرون أن الإنسان خالق لفعله، فهم أثبتوا لكل أحد من الناس خلق فعله.
11- والخلق إنما هو مما اختص الله به، قال تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصَّافَّات: 96].
12- وأفعال العباد لا يخرجها شيء من عموم خلقه –عز وجل- .
13- 6- الفلاسفة الدهرية: في قولهم في حركة الأفلاك بأنها تسعة، وأن التاسع منها وهو الأطلس يحرك الأفلاك كلها، فجعلوه مبدأ الحوادث، وزعموا أن الله يحدث ما يقدره في الأرض.
14- 7- عبدة الأصنام من مشركي العرب وغيرهم: ممن كانوا يعتقدون أن الأصنام تضر وتنفع، فيتقربون إليها، وينذرون لها، ويتبركون بها.
15- 8- غلاة الصوفية: لغلوهم في الأولياء، وزعمهم أنهم يضرون، وينفعون، ويتصرفون في الأكوان، ويعلمون الغيب، ولقولهم بوحدة الوجود، وربوبية كل شيء .
16- 9- الشيعة: لقولهم بأن الدنيا والآخرة للإمام، يتصرف بهما كيف يشاء، وأن تراب الحسين شفاء من كل داء، وأمان من كل خوف، ولقولهم: إن أئمتهم يعلمون الغيب، ويعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا بإذنهم.
17- وهذا باطل، وبطلانه لا يحتاج إلى دليل، بل إن فساده يغني عن إفساده .
18- 10- النصيرية: لقولهم بألوهية علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وبأنه المتصرف بالكون، لوصفهم إياه بأوصاف لا يجوز أن يوصف بها أحد إلا الله –عز وجل- مع اختلاف أقوالهم في هذا؛ فبعضهم يقول: إنه يسكن في الشمس ويسمون بـ: الشمسية.
19- وبعضهم يقولون: إنه يسكن في القمر، ويسمون بـ: القمرية.
20- وبعضهم يقولون: إنه يسكن في السحاب، ولذا إذا رأوا السحاب قالوا: السلام عليك يا أمير النحل .
21- 11- الدروز: لقولهم بألوهية الحاكم بأمر الله العبيدي، وغلوهم فيه، ووصفه بأوصاف لا تليق إلا بالله وحده، كقولهم عنه: (إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) .
22- 12- من يعتقدون تأثير النجوم, والكواكب, والأسماء: وذلك كحال الذين يتتبعون الأبراج ويقولون – رجماً بالغيب – إذا ولد فلان في البرج الفلاني, أو الشهر الفلاني, أو اليوم الفلاني، أو كان اسمه يبدأ بحرف كذا أو كذا – فسيصيبه كذا وكذا، ويضعون عليها دعايات تقول: من شهر ميلادك تعرف حظك، أو من اسمك تعرف حظك.
23- كل ذلك شرك في الربوبية؛ لأنه ادعاء لعلم الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله وحده لا شريك له.
24- 13- القانونيون: الذين يصدون ويصدفون عن شرع الله، والذين يحكمون الناس بالقوانين الوضعية، التي هي من نحاتة أفكارهم، وزبالة أذهانهم فهؤلاء محاربون لله، منازعون له في ربوبيته وحكمه وشرعه
رابعاً: مظاهر الشرك في الربوبية
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في خاتمة كتابه الإغاثة: وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما ... كان في قوم نوح عليه الصلاة والسلام ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد والسرج ونهى عن الصلاة إلى القبور وسأل ربه سبحانه وتعالى أن لا يجعل قبره وثنا يعبد ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا وقال: ((اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) وأمر بتسوية القبور وطمس التماثيل، قال فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله إما جهلا وإما عنادا لأهل التوحيد ولم يضرهم ذلك شيئا وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين وأما خواصهم فإنهم اتخذوها بزعمهم على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم وجعلوا لها بيوتا وسدنة وحجابا وحجا وقربانا ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا فمنها بيت على رأس جبل بأصبهان كانت به أصنام أخرجها بعض ملوك المجوس وجعله بيت نار ومنها بيت ثان وثالث ورابع بصنعاء بناه بعض المشركون على اسم الزهرة فخربه عثمان رضي الله عنه ومنها بيت بناه قابوس الملك المشرك بالهند قال يحيى بن بشر إن شريعة الهند وضعها لهم رجل يقال له برهمن ووضع لهم أصناما وجعل أعظم بيوتها بيتا بمدينة من مدائن السند وجعل فيه صنمهم الأعظم وزعم أنه بصورة الهيولي الأكبر وفتحت هذه المدينة في أيام الحجاج واسمها الملتان إلى أن قال رحمه الله تعالى وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة وهم قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجتهم بعلمه وآلهتهم بيده فطلبوا تحريقه وهذا مذهب قديم في العالم وأهله طوائف شتى فمنهم من عباد الشمس زعموا أنها ملك من الملائكة لها نفس وعقل وهي أصل نور القمر والكواكب وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها وهي عندهم ملك الفلك يستحق التعظيم والسجود والدعاء ومن شريعتهم في عبادتها أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهر على نوع النار وله بيت خاص قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه ثلاث مرات في اليوم ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعون ويستسقون به وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم وإذا غربت وإذا توسطت الفلك ولهذا يقارفها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة لتقع عبادتهم وسجودهم له ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحري الصلاة في هذه الأوقات قطعا لمشابهة الكفار ظاهرا وسدا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام
قلت وقد ذكر الله عز وجل عبادة الشمس عن أهل سبأ من أرض اليمن في عهد بلقيس كما حكى قول الهدهد حيث قال {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ الله} [النمل:24] إلى آخر الآيات وهداها الله تعالى إلى الإسلام على يد نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام حيث قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لله رَبِّ العَالَمِين} [النمل:44]
ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى (فصل) وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة وإليه تدبير هذا العالم السفلي ومن شريعة عباده أنهم اتخذوا لهم صنما على شكل عجل ويجره أربعة وبيد الصنم جوهرة ويعبدونه ويسجدون له ويصومون له أياما معلومة من كل شهر ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه ومنهم من يعبد أصناما اتخذوها على صور الكواكب وروحانياتها بزعمهم وبنوا لها هياكل ومتعبدات لكل كوكب منها هيكل يخصه وصنم يخصه وعبادة تخصه ومتى أردت الوقوف على هذا فانظر في كتاب (السر المكتوم في مخاطبة النجوم) المنسوب لابن خطيب الري تعرف عبادة الأصنام وكيفية تلك العبادة وشرائطها وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام فإنهم لا تستمر لهم طريق إلا بشخص خاص على شكل خاص ينظرون إليه ويعكفون عليه ومن هنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما زعموا أنها على صورها فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده.
ومن أسباب عبادتها أيضا أن الشياطين تدخل فيها وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم وهم لا يشاهدون الشيطان فجهلتهم وسقطهم يظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم المخاطب، وعقلاؤهم يقولون إن تلك روحانيات الأصنام وبعضهم يقول إنها الملائكة وبعضهم يقول إنها هي العقول المجردة وبعضهم يقول هي روحانيات الأجرام العلوية وكثير منهم لا يسأل عما عهد بل إذا سمع الخطاب من الصنم اتخذه إلها ولا يسأل عما وراء ذلك وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان ولم يتخلص منها إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعبادتها في الأرض من قبل نوح عليه الصلاة والسلام كما تقدم وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها والكتب المصنفة في شرائع عبادتها طبق الأرض قال إمام الحنفاء {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35-36] والأمم التي أهلكها الله تعالى بأنواع الهلاك كلهم يعبدون الأصنام كما قص الله عز وجل ذلك عنهم في القرآن وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين ويكفي في معرفة كثرتهم وأنهم أكثر أهل الأرض ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ((بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون)) ، وقد قال الله تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} [الإسراء:89] وقال الله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} [الأنعام:116] وقال الله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] وقال الله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102] ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها فهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها وتحمل أنواع المكاره في نصرتها وعبادتها وهم يسمعون أخبار الأمم التي فتنت بعبادتها وما حل بهم من عاجل العقوبات ولا يثنيهم ذلك عن عبادتها ففتنة عبادة الأصنام أشد من فتنة عشق الصور وفتنة الفجور بها والعاشق لا يثنيه عن مراده خشية عقوبة في الدنيا ولا في الآخرة وهو يشاهد ما يحل بأصحاب ذلك من الآلام والعقوبات والضرب والحبس والنكال والفقر غير ما أعد الله له في الآخرة وفي البرزخ ولا يزيده ذلك إلا إقداما وحرصا على الوصول والظفر بحاجته فهكذا الفتنة بعبادة الأصنام وأشد فإن تأله القلوب لها أعظم من تألهها للصور التي يريد منها الفاحشة بكثير والقرآن بل وسائر الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا الدين وكفر أهله وأنهم أعداء الله وأعداء رسله وأنهم أولياء الشيطان وعباده وأنهم هم أهل النار الذين لا يخرجون منها وهم الذين حلت بهم المثلات ونزلت بهم العقوبات وأن الله سبحانه برئ منهم هو وجميع رسله وملائكته وأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يقبل لهم عملا وهذا معلوم بالضرورة من الدين الحنيف وقد أباح الله عز وجل لرسوله وأتباعه من الحنفاء دماء هؤلاء وأموالهم ونساءهم وأبناءهم وأمرهم بتطهير الأرض منهم حيث وجدوا وذمهم بسائر أنواع الذم وتوعدهـم بأعظم أنواع العقوبة فهؤلاء في شق ورسل الله في شق
(ومن أعمال أهل الشرك) التي لا يفعلها غيرهم ولا تليق إلا بعقولهم السخيفة، وأفئدتهم الضعيفة، وقلوبهم المطبوع عليها، وأبصارهم المغشي عليها (ما) أي الذي (لم يأذن الله) عز وجل في كتابه ولا سنة نبيه (بأن يعظما) بألف الإطلاق، وأن ومدخولها في تأويل مصدر أي لم يأذن الله بتعظيمه ذلك التعظيم الذي منحه إياه من لم يفرق بين حق الله تعالى وحقوق عباده من النبيين والأولياء وغيرهم، بل لم يفرق بين أولياء الله وأعدائه ولا بين طاعته ومعصيته، فيتخذ من دون الله أنداداً وهو يرى أن ذلك الذي فعله قربة وطاعة لله وأن الله يحب ذلك ويرضاه، ويكذَّب الرسل ويدَّعي أنه من أتباعهم، ويوالي أعداء الله وهو يظنهم أولياؤه، كفعل اليهود والنصارى يجاهرون الله بالمعاصي ويكذبون كتابه ويغيرونه ويبدلونه ويحرفون الكلم عن مواضعه ويقتلون الأنبياء بغير الحق وينسبون لله سبحانه وتعالى الولد ويفعلون الأفاعيل ويقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، وهم البُغَضَاء إلى الله وأعداؤه وسبب هذا كله – في الأمم الأولى والأخرى – هو الإعراض عن الشريعة وعدم الاهتمام لمعرفة ما احتوت عليه الكتب من البشارة والنذارة والأمر والنهي والحلال والحرام والوعد والوعيد، ومعرفة ما يجب لله على عباده فعله وما يجب تركه (كمن يَلُذ ببقعة) أي يعوذ بها ويختلف إليها ويتبرك بها ولو بعبادة الله تعالى عندها، وتقدم تقييد ذلك بما لم يأذن به الله، فيخرج بهذا القيد ما أذن الله تعالى بتعظيمه كتعظيم بيته الحرام بالحج إليه وتعظيم شعائر الله من المشاعر والمواقف وغيرها، فإن ذلك تعظيم لله عز وجل الذي أمر بذلك لا لتلك البقعة ذاتها كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استلم الحجر الأسود: (أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) ، وكذلك التعظيم أيضاً نفسه إنَّما أردنا منع تعظيم لم يأذن الله به لا المأذون فيه، فإن الله تعالى قد أمر بتعظيم الرسل بأن يطاعوا فلا يعصوا ويحبوا ويتبعوا، وأن طاعة الرسول هي طاعة الله عز وجل ومعصيته معصية الله عز وجل، فهذا تعظيم لا يتم الإيمان إلا به إذ هو عين تعظيم الله تعالى، فإنهم إنما عُظموا لأجل عظمة المرسل سبحانه وتعالى وأُحبوا لأجله واتُّبعوا على شرعه، فعاد ذلك إلى تعظيم الله عز وجل، فلو أن أحداً عظم رسولاً من الرسل بما لم يأذن الله به ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله عز وجل وغلا فيه حتى اعتقد فيه شيئاً من الإلهية لانعكس الأمر وصار عين التنقص والاستهانة بالله وبرسله كفعل اليهود والنصارى الذي ذكر الله عز وجل عنهم من غلوهم في الأنبياء والصالحين كعيسى وعزير، فكذبوا بالكتاب وتنقصوا الرب عز وجل بنسبة الولد إليه وغير ذلك وكذبـوا الرسول في قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30] فصار ذلك التعظيم في اعتقادهم هو عين التنقص والشتم، سبحان الله عما يصفون، وسلام على المرسلين (أو حجر، أو قبر ميت، أو ببعض الشجر) أو غير ذلك من العيون ونحوها ولو بعبادة الله عندها فإن ذلك ذريعة إلى عبادتها ذاتها كما فعل إبليس لعنه الله بقوم نوح حيث أشار عليهم بتصوير صالحيهم ثم بالعكوف على قبورهم وصورهم وعبادة الله عندها إلى أن أشار عليهم بعبادتها ذاتها من دون الله تعالى فعبدوها، (متخذاً لذلك المكان) من القبور والأشجار والعيون والبقاع وغيرها (عيداً) أي ينتابها ويعتاد الاختلاف إليها (كفعل عابدي الأوثان) في تعظيمهم أوثانهم واعتيادهم إليها، ولذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم العكوف على الأشجار وتعليق الأسلحة بها على جهة التعظيم (تألهاً)، كما في الترمذي عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من قبلكم)) ولقد عمت البلوى بذلك وطمت في كل زمان ومكان حتى في هذه الأمة لاسيما زماننا هذا، ما من قبر ولا بقعة يذكر لها شيء من الفضائل ولو كذباً إلا وقد اعتادوا الاختلاف إليها والتبرك بها حتى جعلوا لها أوقاتاً معلومة يفوت عيدهم بفواتها ويرون من أعظم الخسارات أن يفوت الرجلَ ذلك العيد المعلوم وآل بهم الأمر إلى أن صنفوا في أحكام حجهم إليها كتباً سموها مناسك حج المشاهد ومن أخل بشيء منها فهو عندهم أعظم جرماً ممن أخل بشيء من مناسك الحج إلى بيت الله الحرام، وجعلوا لها طوافاً معلوماً كالطواف بالبيت الحرام, وشرعوا تقبيلها كما يقبَّل الحجر الأسود حتى قالوا إن زحمت فاستلم بمحجن أو أشر إليه، قياساً على فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر الأسود، وشرعوا لها نذوراً من المواشي والنقود، ووقفوا عليها الوقوف من العقارات والحرث وغيرها وغير ذلك من شرائعهم الشيطانية، وقواعدهم الوثنية