-هل يشترط إذن السلطان ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
الأول : أنه لا يشترط ، و هو قول جمهور العلماء ، و به قال مالك و الشافعي و رواية عن أحمد و أبو ثور .
الثاني : أنه شرط ، رُوي ذلك عن الحسن و الأوزاعي ، و حبيب بن ثابت و أبي حنيفة .
قال ابن قدامة : و الصحيح أنه ليس بشرط(1) .
و احتج الموجوبون أنه لا يقيمها إلا الأئمة في كل عصر ، فصار ذلك إجماعاً .
قال ابن قدامة : " و لنا أن علياً صلى الجمعة بالناس و عثمان محصور ، فلم ينكره أحد ، و صوَّب ذلك عثمان ، و أمر بالصلاة معهم … قال أحمد : وقعت الفتنة بالشام تسع سنين ، فكانوا يُجمَّعون .. و لأنها من فرائض الأعيان ، فلم يُشترط لها إذن الإمام كالظهر ، و لأنها صلاة أشبهت سائر الصلوات . و ما ذكروه إجماعاً لا يصح ، فإن الناس يقيمون الجمعات في القرى من غير استئذان أحد . ثم لو صحَّ أنه لم يقع إلا ذلك لكان إجماعاً على جواز ما وقع ، لا على تحريم غيره ، كالحج يتولاه الأئمة و ليس بشرط فيه … "(2) .
و على القول باشتراط إذن الإمام فإن تعذر لفتنة و نحوها فقال القاضي : ظاهر كلامه صحتها بغير إذن ، على كلتا الروايتين ، فعلى هذا يكون الإذن معتبراً مع إمكانه و يسقط اعتباره بتعذره(3) .
و قال النووي : " قال الشافعي و الأصحاب : يستحب ألا تقام الجمعة إلا بإذن السلطان أو نائبه ، فإن أقيمت بغير إذنه و لا حضوره جاز و صحت ، و هكذا جزم به المصنف و الأصحاب ، و لا نعلم فيه خلافاً عندنا إلا ما ذكره صاحب البيان ، فإنه حكى قولاً قديماً أنها لا تصح إلا خلف الإمام أو من أذن له الإمام ، و هذا شاذ ضعيف "(4)
-هل يشترط سماع النداء لوجوب الجمعة ؟ قال أحمد : أما أهل المصر فلابد لهم من شهود الجمعة ، سمعوا النداء أو لم يسمعوا ، و ذلك لأن البلد الواحد بُني للجمعة ، فلا فرق بين القريب و البعيد … و هذا قول أصحاب الرأي و نحوه قول الشافعي(1) . و قال ابن عثيمين : إذا كان البلد واحداً فإنه يلزمه ، و لو كان بينه و بين المسجد فراسخ(2) . قال النووي : " قال الشافعي و الأصحاب : إذا كان في البلد أربعون فصاعداً من أهل الكمال وجبت الجمعة على كل من فيه ، و إن اتسعت خطة البلد فراسخ ، و سواء سمع النداء أم لا وهذا مجمع عليه "(*) .
و أما غير أهل المصر فاختلف العلماء في وجوبها عليهم ، و القائلون بالوجوب اختلفوا في ضابطه أهو المسافة أم سماع النداء أم غير ذلك . فقال أصحاب الرأي : لا جُمعة على من كان خارج المصر ، لأن عثمان رضى الله عنه صلى العيد في يوم الجمعة ، ثم قال لأهل العوالي(3) : من أراد منكم أن ينصرف فلينصرف ، و من أراد أن يقيم حتى يُصلي الجمعة فليقم ، و لأنهم خارج المصر فأشبه أهل الحلل . و قال الجمهور : عليه الجمعة ، ثم اختلفوا في ضابط ذلك : فذهب الشافعية إلى وجوبها على من بلغه النداء دون غيره و هو رواية عن أحمد ، لحديث : " لا جمعة إلا على من سمع النداء "(4) و به قال ابن عمرو بن العاص و سعيد بن المسيب و أحمد و إسحاق . و ذهب الأوزاعي و أبو ثور إلي وجوبها علي من يمكنه إذا فعلها أن يرجع إلى أهله فيبيت فيهم ، لحديث " الجمعة على من آواه الليل إلى أهله "(5) ، و به قال ابن عمر بن الخطاب و أنس و أبو هريرة و معاوية و الحسن و نافع مولى ابن عمر و عكرمة و عطاء .
و قال الزهري : يجب علي من بينه و بين البلد ستة أميال . و قال مالك و الليث : يجب علي من بينه و بين البلد ثلاثة أميال . و هو مذهب أحمد . و اختاره ابن قدامة ، قال الحزمي : و تجب الجمعة علي من بينه و بين الجمعة فرسخ(**) . و إنما اعتبروا المسافة دون السماع ، لأن سماع النداء غير ممكن دائماً فاعتبر بمظنته ، و أما الفرسخ ، فلأنه الموضع الذي يسمع فيه غالباً ، قالوا : و لأن المصر لا يكاد يكون أكثر من فرسخ ، فهو في مظنة القرب . قال ابن قدامة : " و أما اعتبار حقيقة النداء ، فلا يمكن ، لأنه قد يكون من الناس الأصم و ثقيل السمع ، و قد يكون النداء بين يدي المنبر ، فلا يسمعه إلا من في الجامع ، و قد يكون المؤذن خفيَّ الصوت ، أو في يوم ذي ريح ، و يكون المستمع نائماً أو مشغولاً بما يمنع السماع ، فلا يسمع ، و يسمع من هو أبعد منه ، فيفضي إلى وجوبها على البعيد دون القريب ، و ما هذا سبيله ينبغي أن يُقدَّر بمقدار لا يختلف ، و الموضع الذي يسمع منه النداء في الغالب - إذا كان المنادي حيتّيتا في موضع عال و الريح ساكنة و الأصوات هادئة ، و المستمع سميع غير ساه و لا لاه – فرسخ أو قاربه فحدَّ به . و الله أعلم "(***) . و قال محمد بن المنذر و ربيعة و هي رواية عن الزهري : أربعة أميال . و قال ابن حزم : و يلزم المجيء إلى الجمعة من كان منها بحيث إذا زالت الشمس و قد توضأ قبل ذلك دخل الطريق إثر أول الزوال و مشى مترسلاً و يدرك منها و لو السلام ، سواء سمع النداء ، أو لم يسمع ، فمن كان بحيث إن فعل ما ذكرنا لم يدرك منها و لا السلام لم يلزمه المجيء إليها ، سمع النداء أو لم يسمع ، و هو قول ربيعة(1) . و احتج بقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر الله و ذروا البيع ) [ الجمعة : 9 ] .
قال : فافترض الله تعالى السعي إليها إذا نودي لها ، لا قبل ذلك ، و لم يشترط تعالى من سمع النداء ممن لم يسمعه ، و النداء لها إنما هو إذا زالت الشمس ، فمن أمر بالرواح قبل ذلك فرضاً ، فقد افترض ما لم يفترض الله تعالى في الآية ، و لا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فصح يقيناً أنه تعالى أمر بالرواح إليها إثر زوال الشمس لا قبل ذلك ، فصح أنه قبل ذلك فضيلة لا فريضة كمن قرب بدنة "(1) .
و الأولى تعليق الحكم بما علق الله به ، و هو النداء إلى الجمعة ، و هذا الذي علق عليه الرسول صلى الله عليه و سلم الحكم عندما سأل ابن أم مكتوم : " أتسمع النداء ؟ قال : نعم . ، قال : أجب " ، و هذا الضابط في حق من كان خارج المصر ، أما من كان داخل المصر فقد حكى النووي الإجماع على وجوب الجمعة عليه سمع النداء أم لم يسمع ، و أما ما ذهب إليه ابن حزم من عدم التفريق بين من كان داخل المصر و خارجه ، و بين من يسمع النداء و من لا يسمع ففضلاً عن كونه مخالف للإجماع(2) ، فإن القاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، يلزم منها أن من كان بالمصر يسمع النداء و لا يدرك الصلاة إذا خرج لها عند سماعه أنه يلزمه الخروج قبله ، و أما من كان خارج المصر و يسمع النداء و لكن لا يدرك الصلاة إذا خرج عند سماعه ، فقد يتوجه القول بما ذهب إليه لولا عموم الآية . و الله أعل
1-الوقت : و هذا مجمع عليه فلا تصح قبله و لا بعده . و اختلف العلماء في وقت الجمعة على ثلاثة أقوال(1) : الأول : أن وقتها هو وقت الظهر و لا يجوز قبله . و هو قول مالك و الشافعي و أبي حنيفة و جمهور العلماء من الصحابة و التابعين . و به قال ابن حزم . الثاني : أنها تجوز قبل الزوال في الساعة السادسة . و هو قول أحمد و حكي عنه أنه قال في الساعة الخامسة . قال ابن قدامة : و الصحيح في الساعة السادسة . الثالث : أنه يجوز فعلها في الوقت الذي تفعل فيه صلاة العيد . و هو قول القاضي و أصحابه من الحنابلة . و احتج كل فريق على ما ذهب إليه ، و أما أصحاب القول الأول فقد احتجوا على أن وقتها هو وقت الظهر بالآتي : 1-ما أخرجه البخاري من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس(2) . و بوب البخاري لهذا الحديث بقوله : باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس . قال الحافظ : جزم بهذه المسألة مع وقوع الخلاف فيها لضعف دليل المخالف عنده(3) . 2-ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع قال : كنا نجمَّع مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء(4) . 3-قال النووي : و هذا هو المعروف من فعل السلف و الخلف ، قال الشافعي : صلى النبي صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و عمر و عثمان و الأئمة بعدهم كل جمعة بعد الزوال(5) . 4- و أما المعتدل فقالوا : لأنهما صلاتا وقت – أي الجمعة و الظهر – فكان وقتهما واحداً ، كالمقصورة و التامة . و لأن إحداهما بدل عن الأخرى ، و قائمة مقامها ، فأشبها الأصل المذكور . و لأن آخر وقتهما واحد ، فكان أوله واحداً ، كصلاة الحضر و السفر . و احتج أصحاب القول الثاني بالآتي : قال ابن قدامة : " و لنا عل جوازها في السادسة السنة و الإجماع : 1-ما روى جابر بن عبد الله ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يُصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حتى تزول الشمس "(1) . أخرجه مسلم . 2- و عن سهل بن سعد قال : ما كنا نقيل و لا نتغدى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم(2) . متفق عليه . قال ابن قتيبة : لا يسمى غداء و لا قائلة بعد الزوال . 3-و عن سلمة قال : كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم الجمعة ، ثم ننصرف و ليس للحيطان فيء نستظل به(3) . رواه أبو داود .
و الإجماع ، فروى الإمام أحمد .. عن عبد الله بن سيدان قال : شهدت الجمعة مع أبي بكر ، فكانت صلاته و خطبته قبل نصف النهار ، ثم شهدتها مع عمر بن الخطاب فكانت صلاته و خطبته إلى أن أقول قد انتصف النهار ، ثم صليتها مع عثمان بن عفان ، فكانت صلاته و خطبته إلى أن أقول قد زال النهار ، فما رأيت أحداً عاب ذلك و لا أنكره . قال : و كذلك روي عن ابن مسعود و جابر و سعيد و معاوية أنهم صلَّوا قبل الزوال ، و أحاديثهم تدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم فعلها بعد الزوال في كثير من أوقاته ، و لا خلاف في جوازه ، و أنه الأفضل و الأولى ، و أحاديثنا تدل على جواز فعلها قبل الزوال و لا تنافي بينهما "(4) .
و أجاب الجمهور على الأحاديث التي احتج بها أصحاب هذا القول أنها كلها محمولة على شدة المبالغة في تعجيلها بعد الزوال من غير إبراد و لا غيره ، قال النووي : " و تفصيل الجواب أن يقال : حديث جابر فيه إخبار أن الصلاة و الرواح إلى جمالهم كانا حين الزوال ، لا أن الصلاة قبله .و الجواب عن حديث سلمة أنه حجة لنا في كونها بعد الزوال ، لأنه ليس معناه أنه ليس للحيطان شيء من الفيء ، و إنما معناه ليس لها فيء كثير بحيث يستظل به المار ، و هذا معنى قوله : " و ليس للحيطان ظل يستظل به " ، فلم ينف أصل الظل ، و إنما نفى كثيره الذي يستظل به ، و أوضح منه الرواية الأخرى : " نتتبع الفيء " فهذا فيه تصريح بوجود الفيء لكنه قليل ، و معلوم أن حيطانهم قصيرة ، و بلادهم متوسطة من الشمس و لا يظهر هناك الفيء بحيث يستظل به إلا بعد الزوال بزمان طويل .
و أما حديث سهل : " ما كنا نقيل و لا نتغدى إلا بعد الجمعة " فمعناه أنهم كانوا يؤخرون القيلولة و الغداء في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة ، لأنهم نُدبوا إلى التبكير إليها ، فلو اشتغلوا بشيء من ذلك قبلها خافوا فواتها أو فوات التبكير إليها .
و أما الأثر عن أبي بكر و عمر و عثمان فضعيف باتفاقهم ، لأن ابن سيدان ضعيف عندهم ، و لو صح متأوَّلاً لمخالفة الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم "(1) .
و احتج أصحاب القول الثالث بالآتي :
-ما روي عن ابن مسعود و معاوية أنه قال : ما كان عيد إلا في أول النهار ، و لقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يُصلي بنا الجمعة في ظل الحظيم(2) .
2-ما روي عن ابن مسعود و معاوية أنهما صليا الجمعة ضحىً ،و قالا : إنما عجلنا خشية الحر عليكم(3) .
3-و لأنها عيد فجازت في وقت العيد ، كالفطر و الأضحى و الدليل على أنها عيد ما أخرجه ابن ماجة مرفوعاً : " إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين "(4) ، و ما أخرجه أبو داود و غيره مرفوعاً : " قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان "(5) .
و أجاب الجمهور على احتجاجهم بأن الأثرين المذكورين ضعيفان لا ينهضان لمعارضة النصوص الصحيحة المستفيضة الأخرى .
و لا يلزم من تسمية يوم الجمعة عيداً أن يشتمل على جميع أحكام العيد ، بدليل أن يوم العيد يحرم صومه مطلقاً سواء صام قبله أو بعده بخلاف يوم الجمعة باتفاقهم(6) .
قال ابن قدامة :
" و أما في أول النهار ، فالصحيح أنها لا تجوز ، لما ذكره أكثر أهل العلم ، و لأن التوقيت لا يثبت إلا بدليل من نصًّ أو ما يقوم مقامه . و لم يثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا عن خلفائه أنهم صلَّوها أول النهار . و لأن مقتضى الدليل كون وقتها وقت الظهر ، و إنما جاز تقديمها عليه بما ذكرنا من الدليل ، و هو مختص بالساعة السادسة ، فلم يجز تقديمها عليها ، و الله أعلم .
و لأنها لو صليت في أول النهار لفاتت أكثر المصلين ، لأن العادة اجتماعهم لها عند الزوال ، و إنما يأتيها ضُحى آحاد الناس و عدد يسير "(1) .
و بعد عرض الأدلة و مناقشتها فالأولى خروجاً من الخلاف كما قال ابن قدامة : حيث قال :
" فالأولى أن لا تُصلى إلا بعد الزوال ليخرج من الخلاف ، و يفعلها في الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعلها فيه في أكثر أوقاته ، و يُعجَّلها في أول وقتها في الشتاء و الصيف ، لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يُعجَّلها ، بدليل الأخبار التي رويناها ، و لأن الناس يجتمعون لها في أول وقتها ، و يبكرون إليها قبل وقتها ، فلو انتظر الإبراد بها لشق علي الحاضرين ، و إنما جُعل الإبراد بالظهر في شدة الحرَّ دفعاً للمشقة التي يحصل أعظم منها بالإبراد بالجمعة "(2)
و أما آخر وقتها فإنها آخر وقت الظهر بالاتفاق إلا ما حكاه ابن حزم عن مالك من تفريقه بين آخر وقت الجمعة و بين آخر وقت الظهر ، قال ابن حزم : و هذا قول لا دليل علي صحته ، و إذ هي ظهر اليوم فلا يجوز التفريق بين آخر وقتها من أجل اختلاف الأيام(3) .
قال النووي في شرحه المهذب : " إذا شرعوا فيها في وقتها ثم خرج وقتها قبل السلام منها فتت الجمعة بلا خلاف عندنا و في حكم صلاته طريقان : أصحهما ، و به قطع المصنف و سائر العراقيين و جماعات من غيرهم : يجب إتمامها ظهراً و يجزئه
و الثاني و هو المشهور للخراسانيين : فيه قولان : المنصوص : يتمونها ظهراً ، و الثاني ، و هو مخرج : لا يجوز إتمامها ظهراً ، فعلي هذا هل تبطل أو تنقلب نفلاً ؟ فيه القولان السابقان في أول باب صفة الصلاة فيه و نظائره ، أصحهما : تنقلب نفلاً .
و إن قلنا بالمذهب يتمها ظهراً أسر بالقراءة من حينئذ و لا يحتاج إلي نية الظهر
هذا هو المذهب و به قطع الجمهور ، و حكى صاحب البيان و غيره وجهاً أنه تجب نية الظهر و ليس بشيء "(1) .
و قال ابن قدامة في المغني : " ظاهر كلام الحزمي أنه لا يدرك الجمعة إلا بإدراك ركعة في وقتها ، و متى دخل وقت العصر قبل ركعة لم تكن جمعة .
و قال القاضي : متى دخل وقت العصر بعد إحرامه بها أتمها جمعة ، و نحو هذا قال أبو الخطاب ، لأنه أحرم بها في وقتها أشبه ما لو أتمها فيه .
و المنصوص عن أحمد أنه إذا دخل وقت العصر بعد تشهده و قبل سلامه سلَّم و أجزأته . و هذا قول أبي يوسف و محمد . و ظاهر هذا أنه متى دخل الوقت قبل ذلك بطلت أو انقلبت ظهراً .
و قال أبو حنيفة : إذا خرج وقت الجمعة قبل فراغه منها بطلت ، و لا يبني عليها ظهراً ، لأنهما صلاتان مختلفان فلا يبني إحداهما علي الأخرى ، كالظهر و العصر .
و الظاهر أن مذهب أبي حنيفة في هذا كما ذكرنا عن أحمد ، لأن السلام عنده ليس من الصلاة .
و قال الشافعي : لا يتمها جمعة ، و يبني عليها ظهراً ، لأنهما صلاتا وقت واحد ، فجاز بناء إحداهما علي الأخرى ، كصلاة الحضر و السفر .
و احتجوا علي أنه لا يتمها جمعة بأن ما كان شرطاً في بعضها كان شرطاً في جميعها ، كالطهارة و سائر الشروط "(2) .
قال ابن قدامة مرجحاً القول أن من أدرك ركعة في وقتها فإنه يدرك الجمعة :
" و لنا ، قوله صلى الله عليه و سلم : " من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الجمعة "(1) . و لأنه أدرك ركعة من الجمعة ، فكان مدركاً لها ، كالمسبوق بركعة ، و لأن الوقت شرط يختص الجمعة ، فاكتُفي به في ركعة ، كالجماعة .
و ما ذكروه ينتقض بالجماعة ، فإنه يكتفي بإدراكها في ركعة .
فعلى هذا إن دخل وقت العصر قبل ركعة ، فعلي قياس قول الحزمي ، تفسد و يستأنفها ظهراً ، كقول أبي حنيفة . و علي قول أبي إسحاق بن شاقْلا يتمها ظهراً كقول الشافعي ، و قد ذكرنا وجه القولين "(2) .
فائدة :
قال في المغني : " إذا أدرك من الوقت ما يمكنه أن يخطب ، ثم يصلي ركعة ، فقياس قول الحزمي أن له التلبس بها ، لأنه أدرك من الوقت ما يدركها فيه ، فإن شك هل أدرك من الوقت ما يدركها به أو لا ؟ صحَّت ، لأن الأصل بقاء الوقت و صحتها "(3) .
-تقدم الخطبة علي الصلاة :
و هذا مذهب الشافعي و مالك و أحمد و الجمهور ، لقوله صلى الله عليه و سلم : " صلوا كما رأيتموني أصلي "(1) . و لم يصل الجمعة إلا بخطبتين ، و هي الذكر المقصود في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر الله و ذروا البيع ) .
و قال السلف : إنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة .
و قال أبو حنيفة : الخطبة شرط و لكن تجزئ خطبة واحدة ، و لا يشترط العدد لسماعها كالأذان .
و حكى ابن المنذر عن الحسن البصري أن الجمعة تصح بلا خطبة ، و به قال داود و عبد الملك من أصحاب مالك(2) .
قال النووي : " و اتفقت نصوص الشافعي و طرق الأصحاب علي أن الجمعة لا تصح حتى يتقدمها خطبتان ، و من شرطها العدد … و من شرط الخطبتين كونهما في وقت الظهر ، فلو خطب الخطبتين أو بعضهما قبل الزوال ثم صلى بعدهما لم يصح بلا خلاف عندنا ، نص عليه الشافعي ، و اتفق عليه الأصحاب .
و جوزه مالك و أحمد "(3) .
و قال ابن حزم : " و ليست الخطبة فرضاً فلو صلاها إمام دون خطبة صلاها ركعتين جهراً و لابد "(4) .
و رد علي من أوجب الخطبة أو الخطبتين لمجرد فعله صلى الله عليه و سلم ، و كذا من جعلها بدلاً من الركعتين ، و أنكر حكاية الإجماع بما روي عن الحسن البصري و ابن سيرين ، و ذهب إلي أن الذكر في الآية هو الصلاة و ليس الخطبة و أنكر علي من قال ذلك(5) .
حكم صلاة الجمعة :
صلاة الجمعة واجبة و هي من آكد فروض الإسلام ، و فرضها ثابت بالكتاب و السنة و الإجماع (*)
· الأدلة من القرآن :
قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر الله و ذروا البيع ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون ) [ الجمعة : 9 ] .
قال ابن قدامة : فأمر بالسعي ، و مقتضى الأمر الوجوب ، و لا يجب السعي إلا إلى واجب ، و نهى عن البيع ، لئلا يشتغل به عنها ، فلو لم تكن واجبة لما نهى عن البيع من أجلها (2).
قال القرطبي : " فرض الله تعالى الجمعة على كل مسلم ، ردَّا علي من يقول : أنها فرض على الكفاية و جمهور الأمة و الأئمة أنها فرض على الأعيان ، لقول الله تعالى : ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر الله و ذروا البيع ) … " (3) .
· الأدلة من السنة :
1-قوله صلى الله عليه و سلم : " لينتهين أقوام عن وَدْعِهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ، ثم ليكونن من الغافلين " (1).
2-قوله صلى الله عليه و سلم : " من ترك ثلاث جُمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه "(2) .
3-قوله صلى الله عليه و سلم : " رواح الجمعة واجب على كل محتلم " (3).
· من الإجماع :
حكى ابن المنذر الإجماع على أنها فرض عين (4).
ففي صحيح البخاري عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لا يغتسل رجل يوم الجمعة و يتطهر ما استطاع من طُهر ، و يدَّهن من دُهنه أو يمس من طيب بيته ، ثم يخرج ، فلا يفرق بين اثنين ، ثم يُصلي ما كتب له ، ثم يُنصت إذا تكلم الإمام ، إلا غفر له ما بينه و بين الجمعة الأخرى " (5).
و روى الإمام أحمد في مسنده عن سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : " أتدري ما يوم الجمعة ؟ قلت : هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم آدم . قال : " و لكني أدري ما يوم الجمعة ، لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره ، ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته ، إلا كانت كفارة لما بينه و بين الجمعة المُقبلة ما اجتنبت المَقتلة " (6)
و عن أوس بن أوس الثقفي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " من غسَّل يوم الجمعة ، و اغتسل ، ثم بكر و ابتكر ، و مشى و لم يركب ، و دنا من الإمام فاستمع ، و لم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنته ، أجر صيامها و قيامها " (1).
و عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " من اغتسل ثم أتى الجمعة ، فصلى ما قُدَّر له ، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته ، ثم يُصلي معه ، غفر له ما بينه و بين الجمعة الأخرى و فضل ثلاثة أيام " (2).
التهيؤ للجمعة و الاهتمام بها :
1-الاشتغال عن القيلولة (3) و الغذاء بالتهيؤ و الاستعداد للجمعة :
فروى البخاري عن سهل رضى الله عنه قال : " ما كنا نقيل و لا نتغدى إلا بعد الجمعة "(4) .
قال الحافظ : فيه أنهم كانوا يتشاغلون عن الغداء و القائلة بالتهيؤ للجمعة ثم بالصلاة ، و ينصرفون فيتداركون ذلك (5).
جاءت أحاديث و آثار كثيرة في بيان فضل غسل الجمعة و التأكيد عليه ، فمن ذلك :
1- ما أخرجه الجماعة عن ابن عمر مرفوعاً : " إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل " ، و في لفظ لمسلم : " إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل " (2).
2- ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد مرفوعاً : " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ، و السواك و أن يمس من الطيب ما يقدر عليه " (3).
3- ما أخرجاه أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً : " حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه و جسده " (4).
4- ما أخرجاه أيضاً عن ابن عمر أن عمر بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة ، إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين فناداه عمر : أيةُ ساعة هذه ؟! فقال : إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد على أن توضأتُ . قال : و الوضوء أيضاً ؟! و قد علمَّت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يأمر بالغسل ! " (5).
فهذه الأحاديث و غيرها تدل علي مشروعية غسل الجمعة و تأكيده ، و قد اختلف الناس في ذلك .
قال النووي : " و اختلف العلماء في غسل الجمعة ، فحكي وجوبه عن طائفة من السلف حكوه عن بعض الصحابة ، و به قال أهل الظاهر ، و حكاه ابن المنذر عن مالك و حكاه شارع الغنية لابن سريج قولاً للشافعي .
و قد حكى الخطابي و غيره الإجماع علي أن الغسل ليس شرطاً في صحة الصلاة و أنها تصح بدونه ، و ذهب جمهور العلماء من السلف و الخلف و فقهاء الأمصار إلي أنه مستحب . قال القاضي عياض: و هو المعروف من مذهب مالك و الصحابة .
و احتج من أوجبه بظواهر هذه الأحاديث ، و احتج الجمهور بأحاديث صحيحة :
منها : حديث الرجل الذي دخل و عمر يخطب و قد ترك الغسل ، و قد ذكره مسلم ، و هذا الرجل هو عثمان بن عفان جاء مبيناً في الرواية الأخرى .و وجه الدلالة أن عثمان فعله و أمَرَّه عمر و حاضرو الجمعة و هم أهل الحل و العقد ، و لو كان واجباً لما تركه و لألزموه .
و منها : قوله صلى الله عليه و سلم : " من توضأ فبها و نعِمتْ،و من اغتسل فالغسل أفضل " (1)حديث حسن في السنن مشهور . و فيه دليل علي أنه ليس بواجب .
و منها : قوله صلى الله عليه و سلم : " لو اغتسلتم يوم الجمعة " (2). و هذا اللفظ يقتضي أنه ليس بواجب ، لأن تقديره لكان أفضل و أكمل و نحو هذا من العبادات .
و منها : قوله صلى الله عليه و سلم : " من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم أتى الجمعة فاستمع و أنصت غفر له ما بين الجمعة إلي الجمعة و زيادة ثلاثة أيام "(3) .
قال القرطبي في تقرير الاستدلال بهذا الحديث علي الاستحباب : ذكر الوضوء و ما معه مرتباً عليه الثواب المقتضي للصحة ، و يدل علي أن الوضوء كاف .
و قال ابن حجر في التلخيص : إنه من أقوى ما استدل به على عدم فرضية الغسل يوم الجمعة .
و أجابوا عن الأحاديث الواردة في الأمر به أنها محمولة علي الندب جمعاً بين الأحاديث "(4).
*أما أدلة القائلين بالوجوب ، فقد نوقشت كالتالي :
1-أما حديث : " غسل يوم الجمعة واجب علي كل محتلم ، و السواك ، و أن يمس من الطيب ما يقدر عليه " .
2-و كذا حديث : " حق علي كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً … "
فأجاب الجمهور عنها بأن قوله " حق " و قوله " واجب " المراد به متأكد في حقه ، كما يقول الرجل لصاحبه : حقك عليَّ و ليس المراد الوجوب المتحتم المستلزم للعقاب ، بل المراد أن متأكد حقيق بأن لا يخل به (1).
و أجاب القائلون بالوجوب علي هذا التأويل بأن هذا الحديث ضعيف ، قال ابن دقيق العيد :
إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحاً في الدلالة علي هذا الظاهر (2).
أجاب الجمهور أيضاً على الحديث الأول بأن اقتران الأمر بالسواك و الطيب بالأمر بالغسل قرينة صارفة عن الوجوب ، قال القرطبي : ظاهره وجوب الاستنان و الطيب لذكرهما بالعاطف ، فالتقدير: الغسل واجب و الاستنان و الطيب كذلك . قال : و ليسا بواجبين اتفاقاً ، فدل على أن الغسل ليس بواجب ، إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد . أ ﻫ (3).
و أجيب علي هذا الاعتراض من وجهين :
الأول : أنه لا يمنع عطف ما ليس بواجب علي الواجب ، لا سيما و لم يقع التصريح بحكم المعطوف، قاله ابن الجوزي .
و قال ابن المنير في الحاشية : إن سلم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجب عليه ، لأن للقائل أن يقول : أخرج بدليل، فبقي ما عداه علي الأصل (4) …
الثاني : أن دعوى الإجماع في الطيب مردودة ، فقد روى سفيان في جامعه عن أبي هريرة أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة (5). و كذا قال بوجوبه بعض أهل الظاهر .
3-و أما الحديث : " إذا جاء أحدكم إلي الجمعة فليغتسل "
فإنه محمول علي الندب ، و القرينة الصارفة عن الوجوب هذه الأدلة المتعاضدة ، و الجمع بين الأدلة ما أمكن هذا الواجب و قد أمكن بهذا ، فيصار إليه .
و أما أدلة الجمهور القائلين بالاستحباب و الندب لا الوجوب ، فقد نوقشت كالتالي :
1-أما حديث عثمان الذي دخل و عمر يخطب و قد ترك الغسل
فأجاب القائلون بالوجوب عن هذا الحديث بأنه حجة على القائل بالاستحباب له .
قال الشوكاني : لأن إنكار عمر علي رأس المنبر في ذلك الجمع علي مثل ذلك الصحابي الجليل و تقرير جمع الحاضرين الذين هم جمهور الصحابة ، و لو كان الأمر عندهم علي عدم الوجوب ، لما عدل ذلك الصحابي في الاعتذار على غيره ، فأي تقرير من عمر و من حضر بعد هذا ؟! … (1)
اعترض الجمهور على ذلك بأنه أنكر عليه ترك السنة المذكورة و هي التبكير إلي الجمعة و ليس ذلك واجباً اتفاقاً ، فيكون الغسل كذلك .
كما أن القول بترك عثمان الغسل مع اعتقاده بوجوبه يلزم منه تأثيم عثمان رضى الله عنه .
و أجاب القائلون بالوجوب على الاعتراض الثاني بأن عثمان رضى الله عنه معذوراً لأنه إنما تركه ذاهلاً عن الوقت ، قال الحافظ : مع أنه يحتمل أن يكون قد اغتسل في أول النهار ، لما ثبت في صحيح مسلم عن حمران أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يفيض عليه الماء ، و إنما لم يعتذر بذلك لعمر كما اعتذر عن التأخر ، لأنه لم يتصل غسله بذهابه إلي الجمعة كما هو الأفضل (2) .
2-و أما حديث : " من توضأ فبها نعمت ، و من اغتسل فالغسل أفضل " .
فاعترض القائلون بالوجوب بأن للحديث طرقاً أشهرها و أقواها فيه علتان، كما قال الحافظ في الفتح(1) :
إحداهما : أنه من عنعنة الحسن . و الأخرى : أنه اختلف عليه فيه .
و سائر طرق الحديث ضعيفة .
قال ابن دقيق العيد : و لا يقاوم سنده سندي هذه الأحاديث . أ ﻫ . أي أحاديث الوجوب .
أجاب الجمهور أن الحديث يصلح للاحتجاج به و قد حسنه غير واحد من الأئمة ، فيصلح قرينة صارفة للأمر عن الوجوب إعمالاً للدليلين ، و لغيره من الأدلة .
3-و أما حديث عائشة قالت : كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم و من العوالي فيأتون في العباء فيصبن الغبار و العرق ، فتخرج منهم الريح … الحديث و فيه قوله صلى الله عليه و سلم : " لو اغتسلتم يوم الجمعة " .
أجاب القائلون بالوجوب عن الحديث بأنه ليس فيه نفي الوجوب ، و بأنه سابق علي الأمر به و الإعلام بوجوبه و لا يلزم من زوال العلة سقوط الوجوب تعبداً و لا سيما مع احتمال وجود العلة المذكورة ، كالسعي فإنه واجب مع زوال العلة التي شرع لها و هي إغاظة المشركين و كذلك وجوب الرمي مع زوال ما شرع له و هو ظهور الشيطان بذلك المكان(2) .
أجاب الجمهور بأنه فرق بين زوال العلة معقولة المعنى كما هي في الأمر بغسل الجمعة ، و بين العلة التي مبناها على التعبد و امتثال الأمر كما في السعي و الرمي و نحوهما ، فتبقى دلالة الحديث و ظاهر اللفظ دليلاً علي الندب و المشروعية لا الوجوب .
4-و أما حديث : " من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع و أنصت غفر له " .
فأجاب القائلون بالوجوب عن الحديث بأن ليس فيه نفي الغسل ، و قد ورد من وجه آخر في الصحيحين بلفظ : " من اغتسل " فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله علي الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء …
الترجيح :
قال الشوكاني في نيل الأوطار بعد أن ساق أدلة الفريقين :
و بهذا يتبين لك عدم انتهاض ما جاء به الجمهور من الأدلة علي عدم الوجوب ، و عدم إمكان الجمع بينها و بين أحاديث الوجوب ، لأنه و إن أمكن بالنسبة إلى الأوامر لم يمكن بالنسبة إلى لفظ : " واجب " و " حق " إلا بتعسف لا يلجئ طلب الجمع إلى مثله ، و لا يشك من له أدنى إلمام بهذا الشأن أن أحاديث الوجوب أرجح من الأحاديث القاضية بعدمه ، لأن أوضحها دلالة علي ذلك حديث سمرة و هو غير سالم من مقال … و أما بقية الأحاديث فليس فيها إلا مجرد استنباطات واهية …. " (1).
و قال الصنعاني في سبل السلام : … فالأحوط للمؤمن أن لا يترك غسل الجمعة … و في الهدي النبوي الأمر بالغسل يوم الجمعة مؤكد جداً و وجوبه أقوى من وجوب الوتر … (2)
وقت الغسل :
اختلف العلماء في وقت الغسل للجمعة و تعلقه بالذهاب إليها علي ثلاثة أقوال :
الأول : اشتراط الاتصال بين الغسل و الرواح . و إليه ذهب مالك و وافقه الأوزاعي و الليث .
لحديث : " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " و في لفظ مسلم : " إذا أراد أحدكم أن يأتي
الجمعة فليغتسل " .
الثاني : عدم اشتراط ذلك ، و يجزئ من بعد الفجر لكن لا يجزئ فعله بعد صلاة الجمعة ، و
يستحب تأخيره إلي الذهاب و إلي هذا ذهب الجمهور .
الثالث : أنه لا يشترط تقدم الغسل على صلاة الجمعة ، فلو اغتسل قبل الغروب أجزأ عنه ، و إليه
ذهب داود و نصره ابن حزم ، و حجتها تعلق الغسل باليوم في الأحاديث لا بالصلاة .
و قد أنكر هذا القول ابن دقيق العيد و قال : يكاد يجزم ببطلانه ، و حكى ابن عبد البر الإجماع
علي أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة (3).
فائدة :
قال النووي : " قال أصحابنا : و وقت جواز غسل الجمعة من طلوع الفجر إلي أن يدخل
في الصلاة … قالوا : و لا يجوز قبل الفجر . و انفرد إمام الحرمين بحكاية وجه أنه يجوز قبل
طلوع الفجر ، كغسل العيد علي اصح القولين . و الصواب المشهور أنه لا يجزئ قبل الفجر ،
و يخالف العيد ، فإنه يُصلى في أول النهار ، فيبقى أثر الغسل ، لأن الحاجة تدعو إلى تقديم غسل العيد ، لكون صلاته أول النهار ، فلو لم يجز قبل الفجر ضاق الوقت و تأخر التبكير إلى الصلاة " (1).
قال الشوكاني : و الظاهر ما ذهب إليه مالك . لأن مجمل الأحاديث التي أطلق فيها : اليوم علي حديث الباب(1) المقيد بساعة من ساعاته واجب ، و المراد بالجمعة اسم سبب الاجتماع و هو الصلاة لا اسم اليوم(2) .
قال الحافظ : و مقتضى النظر أن يقال : إذا عرف أن الحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة و التنظف رعاية الحاضرين من التأذى بالرائحة الكريهة ، فمن خشي أن يصيبن في أثناء النهار ما يزيل تنظفه استحب له أن يؤخر الغسل لوقت ذهابه ، و لعل هذا هو الذي لحظه مالك فشرط اتصال الذهاب بالغسل ليحصل الأمن مما يغاير التنظف و الله أعلم (3).
مسألة هل يشرع الغسل لمن لم يحضر الجمعة :
قال الحافظ : و استدل من مفهوم الحديث (4)على أن الغسل لا يشرع لمن لم يحضر الجمعة ، و قد تقدم التصريح بمقتضاه في آخر رواية عثمان بن واقد عن نافع . و هذا هو الأصح عند الشافعية ، و به قال الجمهور خلافاً لأكثر الحنفية (5).
و يدل لقول الجمهور ما أخرجه البيهقي من حديث ابن عمر مرفوعاً : " من أتى الجمعة من الرجال و النساء فليغتسل ، و من لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال و النساء " قال النووي : رواه البيهقي بهذا اللفظ بإسناد صحيح(*) .
مسألة : هل يجزئ غسل الجنابة لمن حصلت له عن غسل الجمعة ؟
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال :
الأول : أن غسل الجنابة يجزئ عن غسل الجمعة و إن لم ينوه ، و أن الغسل حيث وقع في الجمعة قبل الصلاة كفى، أياً كان سببه . و هذا قول جمهور العلماء . قال ابن المنذر : حفظنا الإجزاء عن أكثر أهل العلم من الصحابة و التابعين (6).
قال الحافظ في شرح قوله صلى الله عليه و سلم : " اغتسلوا يوم الجمعة و إن لم تكونوا جنباً "
قال : " معناه : اغتسلوا يوم الجمعة إن كنتم جنباً للجنابة ، و إن لم تكونوا جنباً للجمعة " و أخذ منه أن الاغتسال يوم الجمعة للجنابة يجزئ عن الجمعة سواء نواه للجمعة أم لا ، و في الاستدلال به علي ذلك بعد (1).
الثاني : أنه لا يجزئ و لابد ليوم الجمعة من غسل مخصوص ، و هذا قول ابن حزم و جماعة .
قال ابن حزم : " برهان ذلك قول الله تعالى ( و ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) . و قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إنما الأعمال بالنيات ، و لكل امرئ ما نوى " .
فيصح يقيناً أنه مأمور بكل غسل من هذه الأغسال ، فإذا قد صح ذلك ، فمن الباطل أن يجزئ عمل عن عملين أو أكثر … " (2).
و حكى ابن حزم هذا القول عن جماعة من السلف منهم جابر بن زيد و الحسن و قتادة و إبراهيم النخعي و الحكم و طاءوس و عطاء و عمرو بن شعيب و الزهري و ميمون بن مهران .
و قد نقل الحافظ عن أبي قتادة أنه قال لابنه و قد رآه يغتسل يوم الجمعة : " إن كان غسلك عن جنابة فأعد غسلاً آخر للجمعة " . أخرجه الطحاوي و ابن المنذر و غيرهما (3).
القول الثالث : أنه لا يجزئ عنه إلا بالنية ، أي إذا نوى الكل . قال النووي : " و أما إذا وجب عليه يوم الجمعة غسل جنابة فنوى الغسل عن الجنابة و الجمعة معاً فالمذهب صحة غسله لهما جميعاً و به قطع المصنف و الجمهور …. " (**).
و احتج أصحاب هذا القول بقوله صلى الله عليه و سلم : " إنما الأعمال بالنيات ، و إنما لكل امرئ ما نوى ".
قال النووي في شرح المهذب : " .. و لو نوى الغسل للجنابة حصل بلا خلاف ، و في حصول غسل الجمعة قولان : أصحهما عند المصنف في التنبيه و الأكثر ين : لا يحصل ، لأن الأعمال بالنيات ، و لم ينوه . و أصحهما عند البغوي حصوله ، و المختار أنه لا يحصل " (***).
و حمل الحافظ كلام أبي قتادة لابنه علي ذلك ، حيث قال في شرح قوله صلى الله عليه و سلم : " غسل يوم الجمعة " ، قال : " … و استنبط منه أيضاً أن ليوم الجمعة غسلاً مخصصاً حتى لو وجدت صورة الغسل فيه لم يجز عن غسل الجمعة إلا بالنية ، و قد أخذ بذلك أبو قتادة فقال لابنه و قد رآه يغتسل يوم الجمعة : " إن كان غسلك عن جنابة فأعد غسلاً آخر للجمعة " (4).
قال المنبر: لكن هناك وجه آخر يمكن أن يحمل عليه كلام أبي قتادة غير الإجزاء و عدمه ، ألا و هو تحصيل فضيلة مخصوصة لمن يقصد إلى غسل الجمعة و ينويه كما جاء عند ابن خزيمة و ابن حبان و الحاكم و غيرهم عن عبد الله بن أبي قتادة قال : دخل علي أبي و أنا أغتسل يوم الجمعة ، فقال : غسلك هذا من جنابة أو للجمعة ؟ قلت : من جنابة . قال : أعد غسلاً آخر ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلي الجمعة الأخرى " (1).
فائدة :
قال الحافظ في الفتح : " حكى ابن العربي و غيره أن بعض أصحابهم قالوا : يجزئ عن الاغتسال للجمعة التطيب ، لأن المقصود النظافة .
و قال بعضهم : لا يشترط له الماء المطلق بل يجزئ بماء الورد و نحوه .
و قد عاب ابن العربي ذلك و قال : هؤلاء وقفوا مع المعنى ، و أغفلوا المحافظة على التعبد بالمعين ، و الجمع بين التعبد و المعنى أولى . انتهى .
و عكس ذلك قول بعض الشافعية بالتيمم (*)، فإنه تعبد دون نظر المعنى .
أما الاكتفاء بغير الماء المطلق فمردود ، لأنها عبادة لثبوت الترغيب فيها فيحتاج إلى النية ، و لو كان لمحض النظافة لم تكن كذلك ، و الله أعلم " . أ ﻫ (2).
و نقل ابن عثيمين عن شيخ الإسلام قوله : " جميع الأغسال المستحبة إذا لم يستطع أن يقوم بها ، فإنه لا يتيمم عنها ، لأن التيمم إنما شرع للحدث . و معلوم أن الأغسال المستحبة ليست للتطهير ، لأنه ليس هناك حدث حتى يتطهر منه (****).
-التنظيف :
و التنظيف أمر زائد على الاغتسال ، جاءت به السنة كما في حديث سلمان مرفوعاً عند البخاري : " لا يغتسل رجل يوم الجمعة و يتطهر ما استطاع من طهر ، و يدهن من دهنه ، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه و بين الجمعة الأخرى " (*)
و التنظف أمر زائد عن الاغتسال ، و يكون بقطع الرائحة الكريهة و أسبابها من الشعور التي أمر الشارع بإزالتها فيسن حلق العانة و نتف الإبط و حف الشارب و تقليم الأظافر ، و هذا لا يكون كل جمعة . و لكن يتأكد إذا فحشت، و قد وقت النبي صلى الله عليه و سلم لها ألا تزيد عن أربعين يوما .
-التنظيف :
و التنظيف أمر زائد على الاغتسال ، جاءت به السنة كما في حديث سلمان مرفوعاً عند البخاري : " لا يغتسل رجل يوم الجمعة و يتطهر ما استطاع من طهر ، و يدهن من دهنه ، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه و بين الجمعة الأخرى " (*)
و التنظف أمر زائد عن الاغتسال ، و يكون بقطع الرائحة الكريهة و أسبابها من الشعور التي أمر الشارع بإزالتها فيسن حلق العانة و نتف الإبط و حف الشارب و تقليم الأظافر ، و هذا لا يكون كل جمعة . و لكن يتأكد إذا فحشت، و قد وقت النبي صلى الله عليه و سلم لها ألا تزيد عن أربعين يوما .
-استعمال السواك :
و قد دلت السنة على استحباب السواك للجمعة ،لحديث أبي سعيد قال : أشهد على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " الغسل واجب على كل محتلم ، و أن يستن و أن يمس طيباً إن وجد " و لعموم الأحاديث في استحباب السواك لكل صلاة . و قد بوب البخاري في صحيحه بقوله : باب السواك يوم الجمعة …
قال الزين بن المنير : لما خصت الجمعة بطلب تحسين الظاهر من الغسل و التنظيف و التطيب ناسب ذلك تطيب الفم الذي هو محل الذكر و المناجاة ، و إزالة ما يضر الملائكة و بني آدم (1).
و قال الحافظ في تعليق علي حديث حذيفة : " كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا قام الليل يشوص فاه "، و وجه مناسبته لعنوان الترجمة قال : و وجه مناسبته أنه شرع في الليل لتجمل الباطن فيكون في الجمعة أحرى ، لأنه شرع لها التجمل في الباطن و الظاهر(2) .
-تخصيص لباس حسن للجمعة :
لحديث عبد الله بن سلام عن أبي داود و غيره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " ما على أحدكم إن وجد ، أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته " (3).
قال في عون المعبود : و الحديث يدل على استحباب لُبس الثياب الحسنة يوم الجمعة ، و تخصيصه بملبوس غير ملبوس سائر الأيام(4) .
و قد بوب البخاري في صحيحه باب يَلبس أحسن ما يجد ، و أورد فيه حديث ابن عمر " أن عمر رأى حلة سِيراء ( 5 )عند باب المسجد ، فقال : يا رسول الله ، لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة " (6)، و وجه الاستدلال من جهة تقريره صلى الله عليه و سلم لعمر على التجمل يوم الجمعة ، و قصر الإنكار على لبس تلك الحلة لكونها كانت حريراً .
7-التبكير إلي الجمعة :
فيستحب التبكير إلى الجمعة لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ، و من راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، و من راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ، و من راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، و من راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر " (1).
قال ابن القيم في توجيه اختصاص الجمعة بذلك : أنه لما كان في الأسبوع كالعيد في العام ، و كان العيد مشتملاً علي صلاة و قربان ، و كان يوم الجمعة يومَ صلاة ، فجعل الله سبحانه التعجيل فيه إلي المسجد بدلاً من القربان و قائماً مقامه ، فيجتمع للرائح فيه إلي المسجد الصلاة و القربان .
و قد دل الحديث علي استحباب التبكير إلي الجمعة في الساعة الأولى ، و قد اختلف الفقهاء في هذه الساعة علي ثلاثة أقوال ، ذكرها النووي في شرح المهذب، قال :
الأول : الصحيح عند المصنف و الأكثرين : من طلوع الفجر .
و الثاني : من طلوع الشمس . و به قطع المصنف في التنبيه ، و ينكر عليه الجزم به .
و الثالث : أن الساعات هنا لحظات لطيفة بعد الزوال ، و اختاره القاضي حسين و إمام الحرمين و غيرهما من الخراسانيين و هو مذهب مالك …. " (2).
و احتج أصحاب هذا القول عليه بحجتين :
إحداهما : أن الروح لا يكون إلا بعد الزوال .
الثانية : أن السلف كانوا أحرص شيء على الخير ، و لم يكونوا يغدون إلى الجمعة من وقت طلوع الشمس ، و أنكر مالك التبكير إليها في أول النهار ، و قال : لم ندرك عليه أهل المدينة .
و قال : أما الذي يقع بقلبي ، فإنه إنما أراد ساعة واحدة تكون فيها هذه الساعات …
قال أبو عمر ابن عبد البر : و الذي قاله مالك تشهد له الآثار الصحاح من رواية الأئمة و يشهد له أيضاً العمل بالمدينة عنده ، و هذا مما يصح فيه الاحتجاج بالعمل ، لأنه أمر يتردد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء .
قال فمن الآثار التي يحتج بها مالك ، ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " إذا كان يوم الجمعة ، قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة ، يكتبون الناس ، الأول فالأول ، فالمهَجَّر إلي الجمعة كالمُهدي بدنة ، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة (1)… " الحديث … فجعل الأول مُهَجَّراً ، و هذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة و التهجير و ذلك وقت النهوض إلى الجمعة ، و ليس ذلك وقت طلوع الشمس …
و قال النووي في الرد علي قول مالك و من وافقه : " … و معلوم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخرج إلى الجمعة متصلاً بالزوال ، و كذلك جميع الأئمة في جميع الأمصار ، و ذلك بعد انقضاء الساعة السادسة فدل عليى أنه لا شيء من الهدى و الفضيلة لمن جاء بعد الزوال و لا يكتب له شيء أصلاً ، لأنه جاء بعد طي الصحف ، و لأن ذكر الساعات إنما كان للحث علي التبكير إليها و الترغيب في فضيلة السبق و تحصيل فضيلة الصف الأول و انتظارها و الاشتغال بالتنفل و الذكر و نحوه ، و هذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال شيء منه و لا فضيلة للمجيء بعد الزوال ، لأن النداء يكون حينئذ و يحرم التأخير عنه … " (2).
و قال ابن قدامة في الرد علي قول مالك أيضاً : " … و أما قول مالك فمخالف للآثار ، لأن الجمعة يُستحب فعلها عند الزوال ، و كان النبي صلى الله عليه و سلم يبكر بها ، و متى خرج الإمام طويت الصحف ، فلم يُكتب من أتى الجمعة بعد ذلك ، فأي فضيلة لهذا ؟ ! …. (3)
و قال ابن القيم في الرد علي أدلة مالك و من وافقه :
" قلت : و مدار إنكار التبكير أول النهار على ثلاثة أمور (4):
إحداها : على لفظة الرواح ، و أنها لا تكون إلا بعد الزوال .
و الثاني : لفظة التهجير ، و هي إنما تكون بالهاجرة وقت شدة الحر .
و الثالث : عمل أهل المدينة ، فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار .
فأما لفظة الرواح ، فلا ريب أنها تطلق على المضي بعد الزوال ، و هذا إنما يكون في الأكثر إذا قُرنت بالغدو ، كقوله تعالى : ( غدوها شهر و رواحها شهر ) ، و قوله صلى الله عليه و سلم : " من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح " … (1)
و قد يطلق الرواح بمعنى الذهاب و المضي ، و هذا إنما يجيء إذا كانت مجردة عن الاقتران بالغدو
و قال الأزهري في التهذيب : سمعت بعض العرب يستعمل الرواح في السير في كل وقت ، يقال : راح القوم : إذا ساروا ، و غدوا كذلك … و من ذلك ما جاء في الأخبار الصحيحة الثابتة ، و هو بمعنى المضي إلي الجمعة و الخفة إليها ، لا بمعنى الرواح بالعشي .
و أما لفظ التهجير و المهجَّر ، فمن الهجير و الهاجرة ، قال الجوهري : هي نصف النهار عند اشتداد الحر ، تقول منه : هجَّر النهار … و يقال أتينا أهلنا مهجَّرين ، أي في وقت الهاجرة و التهجير ، و التهجُّر : السير في الهاجرة ، فهذا ما يقرر به قول أهل المدينة .
قال آخرون : الكلام في لفظ التهجير كالكلام في لفظ الرواح ، فإنه يطلق و يراد به التبكير .
قال الأزهري في التهذيب : روى مالك عن سُمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه " (2).
و في حديث آخر مرفوع : " المهجَّر إلى الجمعة كالمهدي بدنة " .
قال و يذهب كثير من الناس إلى أن التهجير في هذه الأحاديث تفعيل من الهاجرة وقت الزوال ، و هو غلط ، و الصواب فيه ما روى أبو داود المصاحفي عن النضر بن شُميل أنه قال : التهجير إلي الجمعة و غيرها : التبكير و المبادرة إلى كل شيء ، قال : سمعت الخليل يقول ذلك . قاله في تفسير هذا الحديث .
قال الأزهري : و هذا صحيح ، و هي لغة أهل الحجاز و من جاورهم من قيس …
قال الأزهري : و سائر العرب يقولون : هجَّر الرجل : إذا خرج وقت الهاجرة …
قال ابن القيم : و أما كون أهل المدينة لم يكونوا يروحون إلى الجمعة أوَّل النهار ، فهذا غاية عملهم في زمان مالك رحمه الله ، و هذا ليس بحجة ، و لا عند من يقول : إجماع أهل المدينة حجة ، فإن هذا ليس فيه إلا تركُ الرواح إلى الجمعة من أول النهار ، و هذا جائز للضرورة ، و قد يكون اشتغال الرجل بمصالحه و مصالح أهله و معاشه و غير ذلك من أمور دينه و دنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار . و لا ريب أن انتظار الصلاة بعد الصلاة و جلوس الرجل في مصلاه حتى يصلي الصلاة الأخرى ، أفضل من ذهابه و عوده في وقت آخر للثانية ، كما قال صلى الله عليه و سلم : " و الذي ينتظر الصلاة ثم يُصليها مع الإمام أفضل من الذي يصلي ثم يروح إلى أهله "(1) ، و أخبر أن الملائكة لم تزل تصلي عليه مادام في مصلاه "(2) و أخبر " أن انتظار الصلاة بعد الصلاة مما يمحو الله به الخطايا و يرفع به الدرجات ، و أنه الرَّباط "(3) و أخبر " أن الله يُباهي ملائكته بمن قضى فريضة و جلس ينتظر أخرى " (4).
و هذا يدل على أن من صلَّى الصبح ، ثم جلس ينتظر الجمعة ، فهو أفضل ممن يذهب ثم يجيء في وقتها ، و كون أهل المدينة و غيرهم لا يفعلون ذلك ، لا يدل على أنه مكروه ، فهكذا المجيء إليها و التبكير في أول النهار "(5) .
و قال الخطابي في شرح هذا الحديث : " معنى راح قصد الجمعة و توجه إليها مبكراً قبل الزوال .
قال : و إنما تأولناه هكذا لأنه لا يتصور أن يبقى بعد الزوال خمس ساعات في وقت الجمعة .
قال : و هذا شائع الكلام ، تقول : راح فلان بمعنى قصد ، و إن كان حقيقة الرواح بعد الزوال و الله أعلم (6).
و اختلف في المراد بالساعات ، أهو المتبادر إلي الذهن من العرف فيها ، قال الحافظ : " و فيه نظر : إذ لو كان ذلك المراد لاختلف الأمر في اليوم الشاتي و الصائف ، لأن النهار ينتهي في القصر إلى عشر ساعات ، و في الطول إلى أربع عشرة . و هذا الإشكال للقفَّال ، و أجاب عنه القاضي حسين بأن المراد بالساعات ما لا يختلف عدده بالطول و القصر ، فالنهار اثنتا عشرة ساعة ، لكن يزيد كل منها و ينقص ، و الليل كذلك ، و هذه تسمى الساعات الآفاقية عند أهل الميقات و تلك التعديلية ، و قد روى أبو داود و النسائي و صححه الحاكم من حديث جابر مرفوعاً : " يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة " و هذا و إن لم يرد في حديث التبكير ، فيستأنس به في المراد بالساعات .
و قيل : المراد بالساعات بيان مراتب المبكرين من أول النهار إلي الزوال ، و أنها تنقسم إلى خمس . و تجاسر الغزالي فقسمها برأيه ، فقال : الأولى من طلوع الفجر إلي طلوع الشمس ، و الثانية إلي ارتفاعها ، و الثالثة إلي انبساطها ، و الرابعة إلى أن ترمص الأقدام ، و الخامسة إلى الزوال .
و اعترضه ابن دقيق العيد بأن الرد إلى الساعات المعروفة أولى ، و إلا لم يكن لتخصيص هذا العدد بالذكر معنى ، لأن المراتب متفاوتة جداً … " (1).
فائدة :
قال النووي : " من جاء في أول ساعة من هذه الساعات و من جاء في آخرها مشتركان في تحصيل أصل البدنة أو البقرة أو غيرهما ، و لكن بدنة الأول أكمل من بدنة من جاء في آخر الساعة ، و بدنة المتوسط متوسطة … " (2).
-استحباب المشي إليها و عدم الركوب من غير عذر :
قال ابن قدامة : " و المستحب أن يمشي و لا يركب ، لقوله : ( و مشي و لم يركب ) (1). و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه لم يركب في عيد و لا في جنازة (2). و الجمعة في معناهما ، و إنما لم يذكرها ، لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان باب حجرته شارعاً في المسجد يخرج منه إليه ، فلا يحتمل الركوب . و لأن الثواب علي الخطوات …. " (3).
قال النووي : " … قوله صلى الله عليه و سلم : ( و مشى و لم يركب ) فقد قدمنا عن حكاية الخطابي عن الأثرم أنه للتأكيد ، و أنهما بمعنى . و المختار أنه احتراز من شيئين : أحدهما : نفي توهم حمل المشي علي المضي و الذهاب و إن كان راكباً . و الثاني : نفي الركوب بالكلية ، لأنه لو اقتصر علي المشي لاحتمل أن المراد وجود شيء من المشي و لو في بعض الطريق ، فنفى ذلك الاحتمال و بين أن المراد مشي جميع الطريق و لم يركب في شيء منها … " (4).
قال ابن قدامة في المغني : " و يستحب أن يكون عليه السكينة و الوقار في حال مشيه ، لقول النبي صلى الله عليه و سلم : " إذا سمعتم الإقامة فامشوا و عليكم السكينة و الوقار ، و لا تُسرعوا "(5) و لأن الماشي إلي الصلاة في صلاة ، و لا يشبك بين أصابعه ، و يقارب بين خطاه ، لتكون أكثر لحسناته ، و قد روينا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه خرج مع زيد بن ثابت إلي الصلاة ، فقارب بين خطاه ، ثم قال : " إنما فعلتُ لتكثر خطانا في طلب الصلاة " (6)" (7).
قال النووي في شرح المهذب : " … و اتفقت نصوص الشافعي و الأصحاب علي أن السنة أن يمشي إلي الجمعة بسكينة و وقار ، و به قال جمهور العلماء من الصحابة و التابعين و من بعدهم … و أما قول الله تعالى : ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر الله ) فمعناه : اذهبوا و امضوا لأن السعي يطلق علي الذهاب و علي العدو ،فبينت السنة المراد به " (1).
و قد بوب البخاري في صحيحه باب المشي إلي الجمعة و قول الله جل ذكره ( فاسعوا إلي ذكر الله ) … و أورد حديث " لا تأتوها و أنتم تسعون "(2) . قال الحافظ : " إِشارة منه إلى أن السعي المأمور به في الآية غير السعي المنهي عنه في الحديث ، و الحجة فيه أن السعي في الآية فسر بالمضي ، و السعي في الحديث فسر بالعَدو لمقابلته بالمشي حيث قال : " لا تأتوها تسعون و ائتوها تمشون " "(3)
قال ابن قدامة في المغني : " و روينا عن بعض الصحابة أنه مشى إلي الجمعة حافياً فقيل له في ذلك ، فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " من اغبرت قدماه في سبيل الله ، حرمها الله علي النار " " (4)(5).
فائدة :
قال علماء التفسير : في التعبير بقوله : ( فاسعوا إلي ذكر الله … ) لطيفة، و هي أنه ينبغي للمؤمن أن يقوم إلي صلاة الجمعة بجد و نشاط و عزيمة و همة …
قال الحسن : " و الله ما هو سعي الأقدام ، و لقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا و عليهم السكينة و الوقار ، و لكن بالقلوب و النية و الخشوع . و قال قتادة : السعي أن تسعى بقلبك و عملك (6).