و ذلك لقوله صلى الله عليه و سلم للذي جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة : " اجلس فقد آذيت و آنيت "(1) .
و اختلف العلماء في حكم التخطي على أقوال :
الأول : الكراهة إلا أن يكون قدامهم فرجة لا يصلها إلا بالتخطي ، فلا يكره حينئذ .
و هو مذهب الشافعية (2)و رواية عن أحمد(3) ، و به قال الأوزاعي و آخرون .
قال أحمد : يدخل الرجل ما استطاع ، و لا يدع بين يديه موضعاً فارغاً ، فإن جهل فترك بين يديه خالياً فليتخطَّ الذي يأتي بعده ، و يتجاوز إلى الموضع الخالي ، فإنه لا حرمة لمن ترك بين يديه خالياً ، و قعد في غيره .
و قال الأوزاعي : يتخطاهم إلى السعة ، و قال قتادة : يتخطاهم إلى مصلاه .
و قال الحسن : تخطوا رقاب الذين يجلسون على أبواب المساجد ، فإنه لا حرمة لهم(4) .
الثاني : الكراهة مطلقاً .
حكاه ابن المنذر عن سلمان الفارسي و أبي هريرة و سعيد بن المسيب و عطاء .
و روي عن أحمد : إن كان يتخطى الواحد و الاثنين فلا بأس لأنه يسير فعفي عنه ، و إن كثر كرهناه (5) . و حمل ابن قدامة هذه الرواية في حق من لم يفرطوا ، و إنما جلسوا في أماكنهم لامتلاء ما بين أيديهم ، لكن فيه سعة يمكن الجلوس فيه لازدحامهم (*).
قال ابن عثيمين : و لكن الذي أرى أنه لا يتخطى حتى و لو إلى فرجة ، لأن العلة و هي الأذية موجودة ، و كونهم لا يتقدمون إليها قد يكون هناك سبب من الأسباب ، مثل أن تكون الفرجة في أول الأمر ليست واسعة ثم مع التزحزح اتسعت فحينئذ لا يكون منهم تفريط ، فالأولى الأخذ بالعموم و هو ألا يتخطى إلى فرجة(6).
الثالث : الكراهة إذا جلس الإمام على المنبر ، و لا بأس قبله، و هو قول مالك .
الرابع : التحريم ،و هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه(1) . و اختاره ابن المنذر و قال : لأن الأذى يحرم قليله ، يحرم كثيره ، و هذا أذى كما جاء في الحديث الصحيح …(2).
و قال ابن عثيمين : و الصحيح أن تخطي الرقاب حرام في الخطبة و غيرها ، لقول النبي صلى الله عليه و سلم لرجل رآه يتخطى رقاب الناس : " اجلس فقد آذيت " (3)
و أما الإمام فلا يكره له التخطي إذا لم يجد طريقاً ، لأنه موضع حاجة (4).فإن كان يمكن الوصول إلى مكانه بلا تخط فإنه كغيره في التخطي ، لأن العلة واحدة(5) .
و يلحق بالإمام في انتفاء الكراهة في التخطي من عرضت له حاجة فخرج لها ثم رجع، لأنه قاصد للوصول لحقه ، و إنما الحرج على من تأخر عن المجيء ثم جاء فتخطى (6).
و كذا إذا لم يمكن الصلاة إلا بالدخول و تخطيهم جاز ، لأنه موضع حاجة (7).
لا خلاف بين العلماء في جواز السفر ليلة الجمعة قبل طلوع الفجر إلا ما حكاه العبدري عن إبراهيم النخعي أنه قال : لا يسافر بعد دخول العشاء من يوم الخميس حتى يصلي الجمعة . ذكر هذا الإمام النووي و قال : و هذا مذهب باطل لا أصل له (6).
و أما السفر من طلوع الفجر إلى الزوال فاختلف العلماء في جوازه على خمسة أقوال ذكرها الإمام الشوكاني :
الأول الجواز :
قال العراقي : و هو قول أكثر العلماء ، فمن الصحابة : عمر بن الخطاب ، و الزبير بن العوام ، و أبو عبيدة بن الجراح ، و ابن عمر . و من التابعين : الحسن و ابن سيرين و الزهري . و من الأئمة : أبو حنيفة ، و مالك في الرواية المشهورة عنه ، و الأوزاعي ، و أحمد بن حنبل في الرواية المشهورة عنه ، و هو القول القديم للشافعي ، و حكاه ابن قدامة عن أكثر أهل العلم .
و القول الثاني المنع منه :
و هو قول الشافعي في الجديد ، و هو إحدى الروايتين عن أحمد و عن مالك .
و الثالث :جوازه لسفر الجهاد دون غيره : و هو إحدى الروايات عن أحمد .
و الرابع : جوازه للسفر الواجب دون غيره : و هو اختيار إسحاق المروزي من الشافعية ،
و مال إليه إمام الحرمين .
و الخامس :جوازه لسفر الطاعة واجباً كان أو مندوباً :
و هو قول كثير من الشافعية من الشافعية و صححه الرافعي (1).
و قال النووي : " … و أما السفر بين الفجر و الزوال فقد ذكرنا أن الأصح عندنا تحريمه و به قال ابن عمر و عائشة و النخعي ، و جوزه عمر بن الخطاب و الزبير بن العوام و الحسن و ابن سيرين و مالك و ابن المنذر . و احتج لهم بحديث ابن رواحة رضى الله عنه و هو حديث ضعيف جداً و ليس في المسألة حديث صحيح " (2).
و قال ابن القيم : بعد أن ذكر الخلاف في السفر قبل الجمعة : " … هذا إذا لم يخف المسافر فوت رفقته ، فإن خاف المسافر فوت رفقته و انقطاعه بعدهم ، جاز له السفر مطلقاً ، لأن هذا عذر يُسقط الجمعة و الجماعة . و لعل ما رُوي عن الأوزعي- أنه سُئل عن مسافر سمع أذان الجمعة و قد أسرج دابته ، فقال : ليمض على سفره – محمول على هذا ، و كذلك قول ابن عمر رضى الله عنه الجمعة لا تحبس عن السفر .
و إن كان مرادهم جواز السفر مطلقاً ، فهي مسألة نزاع . و الدليل هو الفاصل . على أن عبد الرازق قد روى في مصنفه عن معمر ، عن خالد الحذَّاء ، عن ابن سيرين أو غيره ، أن عمر بن الخطاب رأى رجلاً عليه ثياب سفر بعدما قضى الجمعة ، فقال : ما شأنك ؟ قال : أردت سفراً ، فكرهت أن أخرج حتى أصلي ، فقال عمر : إن الجمعة لا تمنعك السفر ما لم يحضر وقتها (3). فهذا قول يمنع السفر بعد الزوال ، و لا يمنع منه قبله .
و ذكره عبد الرازق أيضاً عن الثوري ، عن الأسود بن قيس ، عن أبيه قال : أبصر عمر بن الخطاب رجلاً عليه هيئة السفر ، و قال الرجل : إن اليوم يوم الجمعة و لولا ذلك لخرجت ، فقال عمر : إن الجمعة لا تحبس مسافراً ، فاخرج ما لم يحن الرواح (1). "(2) .
و قد استدل المانعون من السفر يوم الجمعة قبل دخول وقتها بحديث ابن عمر مرفوعاً بلفظ : " من سافر يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره "(3) ، و حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ : " من سافر يوم الجمعة دعا عليه ملكاه أن لا يصاحب في سفره و لا تقضى له حاجة " (4).
و ذكر الشوكاني الحديثين و أورد ما يدل على ضعفهما ، ثم قال : " و الظاهر جواز السفر قبل دخول وقت الجمعة و بعد دخوله لعدم المانع من ذلك ، و حديث أبي هريرة ة كذلك حديث ابن عمر لا يصلحان للاحتجاج بهما على المنع لما عرفت من ضعفهما و معارضة ما هو أنهض منهما و مخالفتهما لما هو الأصل ، فلا ينتقل عنه إلا بناقل صحيح و لم يوجد .
و أما وقت صلاة الجمعة فالظاهر عدم الجواز لمن قد وجب عليه الحضور إلا أن يخشى حصول مضرة من تخلفه للجمعة ، كالانقطاع عن الرفقة التي لا يتمكن من السفر إلا معهم و ما شابه ذلك من الأعذار ، و قد أجاز الشارع التخلف عن الجمعة لعذر المطر ، فجوازه لما كان أدخل في المشقة منه أولى " (5) أﻫ .
و قال الألباني رحمه الله: " و ليس في السنة ما يمنع من السفر يوم الجمعة مطلقاً ، بل روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه سافر يوم الجمعة من أول النهار ، و لكنه ضعيف لإرساله … " (6).
و كذا ذهب الشيخ ابن عثيمين أن السفر قبل الزوال يوم الجمعة جائز ، قال : و ذلك لأنه لم يؤمر بالحضور فلم يتعلق الطلب به ، فجاز له أن يسافر قبل الزوال …(7)
و أما السفر بعد الزوال يوم الجمعة :
فذهب عامة العلماء من المالكية و الشافعية و الحنابلة و داود و غيرهم إلي أنه لا يجوز السفر بعد الزوال من يوم الجمعة .
و ذهب أبو حنيفة و الأوزاعي إلي جوازه كسائر الصلوات .
قال الشوكاني : " و أما وقت صلاة الجمعة فالظاهر عدم الجواز لمن قد وجب عليه الحضور إلا أن يخشى حصول مضرة من تخلفه كالانقطاع عن الرفقة التي لا يتمكن من السفر إلا معهم و ما شابه ذلك من الأعذار … " (1).
و ذهب ابن القيم إلي أنه لا يجوز السفر في يومها لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها (2).
و قال الشيخ ابن عثيمين في شرحه علي زاد المستنقع عند تعليقه علي قول المصنف : " و لا يجوز لمن تلزمه السفر في يومها بعد الزوال " قال :" … أي لا يجوز السفر في يومها بعد الزوال لمن تلزمه بنفسه ، أو بغيره ، و ذلك أنه بعد الزوال دخل الوقت بالاتفاق ، و الغالب أنه إذا دخل الوقت يحضر الإمام و تُصلى الجمعة فيحرم أن يسافر " .
فإذا قال قائل : ما الدليل ؟
الجواب : قلنا : قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر الله و ذروا البيع ) [ الجمعة : 9 ] فأمر بالسعي إليها و ترك البيع ، و كذا يترك السفر ، لأن العلة واحدة ، فالبيع مانع من حضور الصلاة ، و السفر كذلك مانع من حضور الصلاة ، لكن المؤلف علق الحكم بالزوال ، لأن الزوال هو سبب وجوب صلاة الجمعة ، إذ إنه يدخل به الوقت و دخول الوقت سبب ، فعلق الحكم بالسبب ، و الأولى أن يعلق الحكم بما علق الله به ، و هو النداء إلي يوم الجمعة ، لأنه من الجائز أن يتأخر الإمام عن الزوال ، و لا يأتي إلا بعد الزوال بساعة ، فلا ينادى للجمعة إلا عند حضور الإمام ….
و يستثنى من تحريم السفر مسألتان :
الأولى : إذا خاف فوات الرفقة … لأن هذا عذر في ترك الجمعة نفسها ، فيكون عذراً في السفر بعد الزوال(3) . لأن علة التحريم هو خوف فوات الجمعة ، و هنا
الجمعة لن تفوت "(2).
و قد اختلف الناس في هذه الساعة : هل هي باقية أو قد رفعت ؟
على قولين ، حكاهما ابن عبد البر و غيره ، و الذين قالوا هي باقية و لم ترفع ، اختلفوا : هل هي في وقت من اليوم بعينه ، أم هي غير معينة ؟ علي قولين .
ثم اختلف من قال بعدم تعيينها : هل هي تتنقل في ساعات اليوم أولاً ؟ علي قولين أيضاً .
و الذين قالوا بتعيينها ، اختلفوا أحد عشر قولاً :
الأول : هي من طلوع الفجر إلي طلوع الشمس ، و بعد صلاة العصر إلي غروب الشمس ، حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة .
الثاني : أنها عند الزوال . حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري و أبي العالية .
الثالث : أنها إذا أذن المؤذن بصلاة الجمعة . حكاه ابن المنذر عن عائشة .
الرابع : أنها إذا جلس الإمام علي المنبر يخطب حتى يفرغ . حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري أيضاً .
الخامس : هي الساعة التي اختار الله وقتها للصلاة . قاله أبو بردة .
السادس : هي ما بين زوال الشمس إلي أن تدخل الصلاة . قاله أبو السوار العدوي .
السابع : هي ما بين أن ترتفع الشمس شبراً إلي ذراع . قاله أبو ذر .
الثامن : أنها ما بين العصر إلي غروب الشمس . حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة و عطاء و عبد الله بن سلام و طاءوس
التاسع : أنها آخر ساعة بعد العصر . و هو قول أحمد و جمهور الصحابة و التابعين .
العاشر : أنها من حين خروج الإمام إلي فراغ الصلاة . حكاه النووي .
الحادي عشر : أنها الساعة الثالثة من النهار . حكاه صاحب المغني .
قال ابن القيم بعد سرد هذه الأقوال ، و أرجح هذه الأقوال :
قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة ، و أحدهما أرجح من الآخر :
الأول : أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة .
و حجة هذا القول ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى أن عبد الله بن عمر قال له : أسمعت أباك يُحدث رسول الله صلى الله عليه و سلم في شأن ساعة الجمعة ، قال : نعم ، سمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول " هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة " (1) .
و القول الثاني :
أنها بعد العصر ، و هذا أرجح القولين ، و هو قول عبد الله بن سلام و أبي هريرة و
الإمام أحمد ، و خلق . و حجة هذا القول ما رواه أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد و أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه الله إياه ، و هي بعد العصر " (2) .
و روى أبو داود و النسائي عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : " يوم الجمعة اثنا عشر ساعة ، فيها ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه ، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر " (1) .
و في سنن ابن ماجة : عن عبد الله بن سلام ، قال : قلتُ و رسولُ الله صلى الله عليه و سلم جالس : إنا لنجد في كتاب الله ( يعني التوراة ) في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يُصلي يسأل الله عز و جل شيئاً إلا قضى الله له حاجته . قال عبد الله : فأشار إليَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو بعض ساعة . قلتُ : صدقتَ يا رسول الله ، أو بعض ساعة . قلتُ : أي ساعة هي ؟ قال : هي آخر ساعة من ساعات النهار . قلتُ : أنها ليست ساعة صلاة ، قال : بلى ، إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة " (2) (3) .
قال ابن القيم : " و عندي أن ساعة الصلاة تُرجى فيها الإجابة أيضاً ، فكلاهما ساعة إجابة ، و إن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر ، فهي ساعة معينة من اليوم لا تتقدم و لا تتأخر ، و أما ساعة الصلاة ، فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت ، لأن لاجتماع المسلمين و صلاتهم و تضرعهم و ابتهالهم إلي الله تعالى تأثيراً في الإجابة ، فساعة اجتماعهم ساعة ترجى فيها الإجابة ، و علي هذا تتفق الأحاديث كلها ، و يكون النبي صلى الله عليه و سلم قد خص أمته علي الدعاء و الابتهال إلي الله تعالى في هاتين الساعتين .
و نظير هذا قوله صلى الله عليه و سلم و قد سئل عن المسجد الذي أسس علي التقوى ، فقال : " هو مسجدكم هذا " و أشار إلي مسجد المدينة . و هذا لا ينفي أن يكون مسجد قباء الذي نزلت فيه الآية مؤسساً على التقوى ، بل كل منهما مؤسس على التقوى .
و كذلك قوله في ساعة الجمعة : " و هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة " لا ينافي قوله في الحديث الآخر : " فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر " … و هذه الساعة هي آخر ساعة بعد العصر ، يُعظمها جميع أهل الملل ، و عند أهل الكتاب هي ساعة الإجابة ، و هذا مما لا غرض لهم في تبديله و تحريفه ، و قد اعترف به مؤمنهم .
و أما من قال بتنقلها ، فرام الجمع بذلك بين الأحاديث ، كما قيل ذلك في ليلة القدر ، و هذا ليس بقوي ، فإن ليلة القدر قد قال فيها النبي صلى الله عليه و سلم : " فالتمسوها في خامسة تبقى ، في سابعة تبقى ، في تاسعة تبقى " (1) و لم يجئ ذلك في ساعة الجمعة .
و أيضاً فالأحاديث التي في ليلة القدر ، ليس فيها حديث صريح بأنها ليلة كذا و كذا ، بخلاف أحاديث ساعة الجمعة ، فظهر الفرق بينهما .
و أما قول من قال : أنها رفعت ، فهو نظير قول من قال : إن ليلة القدر رفعت ، و هذا القائل ، إن أراد أنها كانت معلومة ، فرفع علمها عن الأمة ، فيقال له : لم يُرفع علمها عن كلَّ الأمة ، و إن رفع عن بعضهم . و إن أراد أن حقيقتها و كونها ساعة إجابة رُفعت ، فقول باطل مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة ، فلا يعول عليه . و الله أعلم " (2) .
و ذكر الحافظ بن حجر الاختلاف في هذه الساعة و أوصل الأقوال فيها إلي اثنين و أربعين قولاً ثم زاد قولاً آخر فصار مجموعهما ثلاثة و أربعين قولاً : ، ثم قال :
و لا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى و حديث عبد الله بن سلام كما تقدم . قال المحب الطبري : أصح الأحاديث منها حديث أبي موسى ، و أشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام و ما عداهما إما موافق لهما أو لأحدهما ، أو ضعيف الإسناد أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف .
و لا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه صلى الله عليه و سلم أنسيها بعد أن علمها ؟ لاحتمال أن يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أنسي . أشار إلي ذلك البيهقي و غيره .
و قد اختلف السلف في أيهما أرجح ، فروى البيهقي من طريق أبي الفضل أحمد بن سلمة النيسابوري أن مسلماً قال : حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب و أصحه ، و بذلك قال البيهقي و ابن العربي و جماعة . و قال القرطبي : هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره .
و قال النووي : هو الصحيح ، بل الصواب . و جزم في الروضة بأنه الصواب ، و رجحه أيضاً بكونه مرفوعاً صريحاً و في أحد الصحيحين .
و ذهب آخرون إلى ترجيح قول عبد الله بن سلام ، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال : أكثر الأحاديث على ذلك . و قال ابن عبد البر : أنه أثبت شيء في هذا الباب . و روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناساً من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ، ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة . و رجحه كثير من الأئمة أيضاً كأحمد و إسحاق و من المالكية الطرطوشي ، و حكى العلائي أن شيخه ابن الزملكاني شيخ الشافعية في وقته كان يختاره و يحكيه عن نص الشافعي .
و أجابوا عن كونه ليس في أحد الصحيحين بأن الترجيح بما في الصحيحين أو أحدهما إنما هو حيث يكون مما انتقده الحفاظ ، كحديث أبي موسى هذا فإنه أعل بالانقطاع و الاضطراب … " (3) .
و قال ابن المنير في الحاشية : إذا علم أن فائدة الإبهام لهذه الساعة و لليلة القدر بعث الداعي على الإكثار من الصلاة و الدعاء ، و لو بيَّن لاتكل الناس على ذلك و تركوا ما عداها ، فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها (4) .
و قريب من هذا قول ابن عمر : إن طلب الحاجة في يوم ليسير . و معناه : أنه ينبغي المداومة على الدعاء يوم الجمعة كله ليمر بالوقت الذي يستجاب فيه الدعاء .
و كان كعب الأحبار يقول : لو أن إنساناً قسم جمعة في جمع لأتى علي تلك الساعة . قال ابن المنذر : معناه أنه يبدأ فيدعو في جمعة من الجمع من أول النهار إلي وقت معلوم ، ثم في جمعة أخرى من ذلك الوقت إلي آخر ، حتى يأتي على آخر النهار .
قال الحافظ : و الذي قاله ابن عمر يصلح لمن يقوى علي ذلك ، و إلا فالذي قاله كعب الأحبار سهل على كل أحد (1) .
فكرهه أحمد ، قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله : صيام يوم الجمعة ؟ فذكر حديث النهي عن أن يفرد ، ثم قال : إلا أن يكون في صيام كان يصومه ، و أما أن يفرد فلا . قلت : رجل كان يصوم يوماً و يفطر يوماً ، فوقع فطره يوم الخميس ، و صومه يوم الجمعة ، و فطره يوم السبت ، فصار الجمعة مفرداً ؟ قال : هذا إلا أن يتعَّمد صومه خاصة ، إنما كُرِه أن يتعمد الجمعة .
و أباح مالك و أبو حنيفة صومه كسائر الأيام ، قال مالك : لم أسمع أحداً من أهل العلم و الفقه و من يُقتدي به ينهى عن صيام يوم الجمعة ، و صيامه حسن ، و قد رأيت بعض أهل العلم يصومه ، و أراه كان يتحراه . قال ابن عبد البر : اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه و سلم في صيام يوم الجمعة ، فروى ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ، و قال قلما رأيته مفطراً يوم الجمعة (1) …
و الأصل في يوم الجمعة أنه عمل بر لا يُمنع منه إلا بدليل لا معارض له .
قال ابن القيم : قد صح المعارض صحةً لا مطعن فيها البتة ، ففي الصحيحين عن محمد بن عباد ، قال : سألت جابراً : أنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيام يوم الجمعة ؟ قال : نعم (2) و في صحيح مسلم عن محمد بن عباد قال : سألت جابر بن عبد الله ، و هو يطوف بالبيت : أنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيام يوم الجمعة ؟ قال : نعم و ربَّ هذه البَنيَّة (3) .
و في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول " لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يُصوم يوماً قبله ، أو يوماً بعده "(4) .
و في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ، و لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام ، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " (5) .
و في صحيح البخاري عن جويرية بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل عليها يوم الجمعة و هي صائمة ، فقال : " أصمت أمس ظ قالت : لا . قال : فتريدين أن تصومي غداً ؟ قالت : لا . قال : فأفطري " (6)(7) .
قال الحافظ في الفتح :
" و هذه الأحاديث تقيد النهي المطلق في حديث جابر و تؤيد الزيادة التي تقدمت من تقييد الإطلاق بالإفراد ، و يؤخذ من الاستثناء جوازه لمن صام قبله أو بعده ، أو اتفق وقوعه في أيام له عادة بصومها ، كمن يصوم الأيام البيض أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة ، و يؤخذ منه جواز صومه لمن نذر يوم قدوم زيد مثلاً أو يوم شفاء فلان "(1)
قال ابن القيم في الزاد : و ذكر ابن جرير عن مغيرة عن إبراهيم أنهم كرهوا صوم الجمعة ليقووا علي الصلاة . قلت - أي ابن القيم - : المأخذ في كراهيته :
ثلاثة أمور ، هذا أحدها ، و لكن يشكل عليه ، زوال الكراهية بضم يوم قبله ، أو بعده إليه .
و الثاني : أنه يوم عيد ، و هو الذي أشار إليه صلى الله عليه و سلم ، , قد أورد علي هذا التعليل إشكالان :
أحدهما : أن صومه ليس بحرام ، و صوم يوم العيد حرام .
و الثاني : أن الكراهة تزول بعدم إفراده .
و أجيب علي الإشكالين ، بأنه ليس عيد العام ، بل عيد الأسبوع ، و التحريم إنما هو لصوم عيد العام ، و أما إذا صام يوماً قبله ، أو يوماً بعده ، فلا يكون قد صامه لأجل كونه جمعة و عيداً ، فتزول المفسدة الناشئة من تخصيصه ، بل يكون داخلاً في صيامه تبعاً ، و علي هذا يجمل ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده و النسائي و الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود إن صح قال : قلما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يفطر يوم الجمعة . فإن صح هذا تعين حمله علي أنه كان يدخل في صيامه تبعاً ، لا أنه كان يفرده ، لصحة النهي عنه …
و المأخذ الثالث :
سد الذريعة من أن يُلحق بالدَّين ما ليس فيه ، و يوجب التشبه بأهل الكتاب في تخصيص بعض الأيام بالتجرد عن الأعمال الدنيوية ، و ينضم إلي هذا المعنى : أن هذا اليوم لما كان ظاهر الفضل علي الأيام ، كان الداعي إلي صومه قوياً ، فهو في مظنة تتابع الناس في صومه و احتفالهم به ما لا يحتفلون بصوم يوم غيره ، و في ذلك إلحاق بالشرع ما ليس منه ، و لهذا المعنى – و الله أعلم – نهي عن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام من بين الليالي ، لأنها من أفضل الليالي ، حتى فضَّلها بعضهم علي ليلة القدر ، و حكيت رواية عن أحمد ، فهي في مظنة تخصيصها بالعبادة فحسم الشارع الذريعة ، و سدًّها بالنهي عن تخصيصها بالقيام . و الله أعلم (2) .
ذهب بعض العلماء إلى استحباب ذلك ، و احتج بألفاظ بعض الأحاديث التي استنبط منها ذلك ، و من ذلك : ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعاً " من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة … " .
قال الحافظ في الفتح : " قوله ( غسل الجنابة ) بالنصب علي أنه نعت لمصدر محذوف ، أي غسلاً كغسل الجنابة ، و هو كقوله تعالى : ( و هي تمر مر السحاب ) [ النمل ] و في رواية ابن جريج عن سمي عند عبد الرازق : " فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة " و ظاهره : أن التشبيه للكيفية لا للحكم ، و هو قول الأكثر .
و قيل : فيه إشارة إلي الجماع يوم الجمعة ، ليغتسل فيه من الجنابة ، و الحكمة فيه أن تسكن نفسه في الرواح إلي الصلاة و لا تمتد عينه إلي شيء يراه ، و فيه حمل المرأة أيضاً علي الاغتسال ذلك اليوم…
قال النووي : ذهب بعض أصحابنا إلي هذا و هو ضعيف أو باطل ، و الصواب الأول . أ ﻫ .
و قد حكاه ابن قدامة عن الإمام أحمد ، و ثبت أيضاً عن جماعة من التابعين ، و قال القرطبي : أنه أنسب الأقوال فلا وجه لادعاء بطلانه ، و إن كان الأول أرجح ، و لعل عنى أنه باطل في المذهب " (1).
قال النووي في المجموع : " و قوله صلى الله عليه و سلم : " غسل الجنابة " معناه غسلاً كغسل الجنابة في صفاته ، و إنما قال ذلك لئلا يتساهل فيه و لا يكمل آدابه و مندوباته لكونه سنة ليس بواجب ، هذا هو المشهور في معناه ، و لم يذكر جمهور أصحابنا و جماهير العلماء و غيره .
و حكى القاضي أبو الطيب في تعليقه ، و صاحب الشامل و غيرهما من أصحابنا أن بعضهم حمله علي الغسل من الجنابة حقيقة .
قالوا : و المراد به أنه يستحب له أن يجامع زوجته إن كان له زوجة أو أمته لتسكن نفسه في يومه ، و يؤيده الحديث المذكور بعد هذا " من غسل و اغتسل " علي أحد المذاهب في تفسيره (*).
-و من ذلك أيضاً ما رواه أصحاب السنن من حديث أوس بن أوس مرفوعاً : " من اغتسل يوم الجمعة و غسَّل ، و بكَّر و ابتكر … "(2) الحديث .
قال المباركفوري : " قوله : ( من اغتسل و غسَّل ) رُوي بالتشديد و التخفيف (1)، قيل : أراد به غسل رأسه ، و بقوله ( اغتسل ) غسل سائر بدنه .
و قيل : جامع زوجته فأوجب عليها الغسل ، فكأنه غسَّلها و اغتسل .
و قيل : كرر ذلك للتأكيد .
و يُرجح التفسير الأول ما في رواية أبي داود في هذا الحديث بلفظ : " من غسل رأسه و اغتسل " ، و ما في البخاري عن طاءوس ، قلت لابن عباس : ذكروا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " اغتسلوا و اغسلوا رءوسكم … " .
و قال وكيع : اغتسل هو و غسَّل امرأته . قال الجزري في النهاية : ذهب كثير من الناس أن غسَّل أراد به المجامعة قبل الخروج إلي الصلاة ، لأن ذلك يجمع غض الطرف في الطريقين ، يقال : غسَّل الرجل امرأته بالتشديد و التخفيف ، إذا جامعها ، و قد روي مخففاً ، و قيل : أراد غسَّل غيره ، و اغتسل هو ، لأنه إذا جامع زوجته أحوجها إلي الغسل ، و قيل : هما بمعنى ، كرره للتأكيد " (2).
صرح الفقهاء بأن للوالي و القاضي منع المسجون من الخروج للجمعة و الجماعة و نحوهما …
فإن كان حبسه لسبب يمكن دفعه كالمماطلة في دفع الدين فهو آثم ، و إن كان حبسه لسبب لا يمكن دفعه كمن حُبس ظلماً كما هو حال كثير من الدعاة و العلماء في كثير من بلاد الإسلام حيث يتعرضون للحبس و السجن أعواماً طويلة و غالباً ما يمنعون من شهود الجمعة حتى في السجن ، في حين يسمح لغيرهم ، و هذا معلوم مشاهد ، فهل يجب علي من كان هذا حاله إقامة الجمعة في محبسه ؟! و إذا علمنا أن في كثير من السجون يكون المسجونون موزعين علي غرف " زنزانات " لا يسمح لساكنيها بالخروج منها و الالتقاء بغيرهم ، فمعنى ذلك أن تقام جمعات بعدد الغرف " الزنزانات " فما حكم ذلك ؟
ذهب ابن حزم و كثير من الشافعية علي أن السجناء يقيمون صلاة الجمعة في السجن .
قال ابن حزم : " و سواء فيما ذكرنا- من وجوب الجمعة – المسافر في سفره و العبد و الحر المقيم ، و كل ما ذكرنا يكون إماماً فيها ، راتباً و غير راتب ، و يصليها المسجونون ، و المختفون ركعتين في جماعة بخطبة كسائر الناس ، و تصلى في كل قرية صغرت أم كبرت ، كان هناك سلطان أو لم يكن ، و إن صليت الجمعة في مسجدين في القرية فصاعداً جاز ذلك " (1).
و قال صاحب رسالة حكم الحبس في الشريعة الإسلامية : " و إذا كان أهل السجن لا يخرجون للجمعة فإنه يلزمهم إقامتها في السجن ، إذا توفرت شروطها ، و يعين لهم الإمام خطيباً منهم ، أو من خارج السجن ، و ذلك لعموم قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه : " جمعوا حيثما كنتم " (2).
و في الاحتجاج بهذا الأثر المروي عن عمر رضى الله عنه علي ما ذهب إليه نظر ، إذ إن عمر رضى الله عنه قد خالفه غيره من الصحابة في هذه المسألة ، و قال الحافظ : " فلما اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلي المرفوع "(3) و هذا في مسألة اشتراط المدينة للجمعة ، فكيف يستفاد العموم من هذا القول إذن ؟! .
و جاء في طبقات الشافعية الكبرى أن الإمام أحمد رحمه الله كان يصلي بأهل السجن عندما سجن في فتنة القول بخلق القرآن ، و كان يقول : " إني كنت أصلي بأهل السجن و أنا مقيد "(1) .
و كان الإمام البويطي رحمه الله و هو في الحبس بسبب هذه الفتنة يغتسل كل جمعة و يتطيب و يغسل ثيابه ، ثم يخرج إلي باب السجن إذا سمع النداء ، فيرده السجان ، و يقول : ارجع رحمك الله ، فيقول البويطي : " اللهم إني أجبت داعيك فمنعوني "(2) .
مسألة : حكم تعدد الجمعة في المصر الواحد :
اختلف العلماء في هذه المسألة علي أقوال(1) :
الأول : أنه لا يجوز جمعتان في بلد لا يعسر الاجتماع فيه في مكان .
و هو مذهب الشافعي و حكاه ابن المنذر عن ابن عمر و مالك و أبي حنيفة .
الثاني : أنه إذا عظم البلد كبغداد و البصرة جاز جمعتان فأكثر إن احتاجوا و إلا فلا يجوز أكثر من جمعة واحدة .
و هو مذهب أحمد .
الثالث : يجوز في بغداد دون غيرها ، و هو قول أبي يوسف ، لأن الحدود تقام فيها في موضعين ، و الجمعة حيث تقام الحدود ، و مقتضى قوله أنه لو وجد بلد آخر تقام فيه الحدود في موضعين ، جازت إقامة الجمعة في موضعين .
الرابع : يجوز جمعتان سواء كان جانبان أم لا .
و هو قول محمد بن الحسن .
الخامس : يجوز في البلد جمع دون تقيد بحاجة أو بغيرها .
و هو قول عطاء و داود و ابن و الشوكاني .
و يمكن أن نخلص من ذلك إلى ثلاثة أقوال :
الأول : أن التعدد ممنوع مطلقاً .
الثاني : أنه جائز بقدر الحاجة .
الثالث : أنه يجوز مطلقاً من غير حاجة .و هو قول عطاء و داود و ابن حزم و الشوكاني .
احتج الأولون على مذهبهم بالآتي :
1-أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يُجمع إلا في مسجد واحد ، و كذلك الخلفاء بعده ، و لو جاز لم يعطلوا المساجد . حتى إن الإمام أحمد سئل عن تعدد الجمعة ؟ فقال : ما علمت أنه صلي في المسلمين أكثر من جمعة واحدة .
2-ما نقله ابن حجر عن ابن عساكر في مقدمة تاريخ دمشق " أن عمر كتب إلي أبي موسى و إلي عمرو بن العاص و إلي سعد ابن أبي وقاص أن يتخذوا مسجداً جامعاً للقبائل ، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلي المسجد الجامع فشهدوا الجمعة " .
قالوا : فلو لم يكن الموضع الواحد شرطاً في صحتها لما أمرهم عمر رضى الله عنه بتحمل هذه المشقة الناتجة عن تركهم لقبائلهم و اجتماعهم في المسجد الكبير الجامع .
3-قول ابن عمر : لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر الذي يصلي فيه الإمام .
4-أن القول بتعدد الجمعة يؤدي لفوات المقصود الأعظم و هو اجتماع المسلمين و ائتلافهم .
و احتج القائلون بجواز التعدد مطلقاً بالآتي :
1-قول عمر : جمعوا حيث كنتم .
2-قول عطاء : لكل قوم مسجد يجمعون فيه ، ثم يجزئ ذلك عنهم .
3-لو كان منع التعدد شرطاً لصحة الجمعة لبينه النبي صلى الله عليه و سلم لصحابته ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .و أما ترك النبي صلى الله عليه و سلم إقامة جمعتين فلغناهم عن إحداهما ، و لأن أصحابه كانوا يرون سماع خطبته و شهود جمعته و إن بعدت منازلهم ، لأنه المبلغ عن الله تعالى ، و شارع الأحكام ، و لما دعت الحاجة إلي ذلك في الأمصار صليت في أماكن ، و لم يُنكر فصار إجماعاً ، و قول ابن عمر يعني أنها لا تقام في المساجد الصغار ، و يترك الكبير ، و أما اعتبار ذلك بإقامة الحدود فلا وجه له .
-قياساً على جواز التعدد في صلاة العيد ، فكان على يخرج يوم العيد إلى المصلى و يستخلف على ضعفة الناس أبا مسعود فيصلي بهم ، فتقاس الجمعة على العيد بجامع أن كليهما صلاة شرع لها الاجتماع و الخطبة .
5-أن في القول بإقامة الجمعة في موضع واحد حرجاً بيناً ، و الحرج مدفوع شرعاً .
قال الشوكاني : " هذه المسألة – تعدد الجمعة – قد اشتهرت بين أهل المذاهب و تكلموا فيها ، و صنف فيها من صنف منهم ، و هي مبينة على غير أساس ، و ليس عليها إشارة من علم قط ، و ما ظنه بعض المتكلمين من كونه دليلاً عليها هو بمعزل من الدلالة ، و ما أوقعهم في هذه الأقوال الفاسدة إلا ما زعموه من الشروط التي اشترطوها بلا دليل و لا شبهة دليل .
فالحاصل أن صلاة الجمعة صلاة من الصلوات ، يجوز أن تقام في وقت واحد كما تقام جماعات سائر الصلوات في المصر الواحد ، و لو كانت المساجد متلاصقة ، و من زعم خلاف هذا ، فإن كان مستند زعمه مجرد الرأي فليس ذلك بحجة علي أحد ، و إن كان مستند زعمه الرواية فلا رواية "(1)
و احتج أصحاب القول الثاني القائلين بجواز التعدد للحاجة ، بأدلة القول الأول إلا أنهم حملوها علي أنه لم يكن هناك حاجة لتعدد الجمعة فلما دعت الحاجة إلي ذلك في الأمصار صليت في أماكن و لم ينكر فصار إجماعاً .(1)
قال ابن قدامة : " فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز أكثر من واحدة ، و إن حصل الغنى باثنتين لم تجز الثالثة ، و كذلك ما زاد ، لا نعلم في هذا مخالفاً إلا أن عطاء قيل له : إن أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر . قال : لكل قوم مسجد يجمعون فيه ، و يجزئ ذلك من التجميع في المسجد الأكبر . و ما عليه الجمهور أولى ، إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم و خلفائه أنهم جمعوا أكثر من جمعة ، إذ لم تدع الحاجة إلي ذلك ، و لا يجوز إثبات الأحكام بالتحكم بغير دليل … "(2) .
قال ابن عثيمين : " و المراد بالحاجة هنا ما يشبه الضرورة … و مثل الحاجة إذا ضاق المسجد عن أهله و لم يمكن توسيعه … و كذا إذا تباعدت أقطار البلد و صار الناس يشق عليهم الحضور فهذا أيضاً حاجة … و من الحاجة أيضاً أن يكون بين أطراف البلد حزازات و عداوات يخشى إذا اجتمعوا في مكان واحد أن تثور فتنة ، فهنا لا بأس أن تعدد الجمعة ، لكن هذا مشروط بما إذا تعذر الإصلاح ، أما إذا أمكن الصلح وجب الإصلاح و توحيدهم علي إمام واحد .
و ليس من الحاجة أن يكون الإمام مسبلاً أو فاسقاً ، لأن الصحابة صلوا خلف الحجاج بن يوسف ، و هو من أشد الناس ظلماً و عدواناً يقتل العلماء و الأبرياء … "(3) .
و بعد عرض الأدلة و النظر في أقوال كل فريق ، فإذا كانت أدلة القائلين بعدم جواز التعدد مطلقاً لا تخلو من نظر و اعتراض ، كذا فإن القول بجوازه مطلقاً خروجاً عن مقصود الجمعة من الاجتماع ، و يبقى القول بجوازها للحاجة هو أقربها ، إلا أن القول بعدم صحة الصلاة و بطلانها إذا كان التعدد لغير حاجة لا دليل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع أو دليل صحيح ، و غاية عدم الفعل لا تدل علي بطلان الفعل أو عدم جوازه ، و قد سبق إجابة ابن قدامة و غيره عن تركه صلى الله عليه و سلم إقامة جمعتين ، و ما نقل من آثار و أقوال فمع وجود ما يعارضها فيمكن حملها علي اعتبا مصلحة راجحة في حينها ، و ربما كان راجعاً لرغبتهم في تكثير سواد المسلمين بالنسبة لمن حولهم من غير المسلمين ، خاصة في البلدان المفتوحة حديثاً و التي تضم المسلمين و غيرهم ، و الله أعلم .
مسألة : اجتماع الجمعة مع العيد :
اختلف العلماء في هذه المسألة علي أقول :
الأول : وجوبها علي أهل البلد و سقوطها عن أهل القرى .
و هو مذهب الشافعي ، قال النووي : و به قال عثمان بن عفان و عمر بن عبد العزيز و جمهور العلماء .
و احتج الشافعية و من وافقهم بما رواه البخاري في صحيحه عن عثمان رضى الله عنه قال في خطبته : " أيها الناس قد اجتمع عيدان في يومكم ، فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا الجمعة فليصل ، و من أراد أن ينصرف فلينصرف "(1) .
و لأنهم إذا قعدوا في البلد لم يتهيئوا بالعيد ، فإن خرجوا ثم رجعوا للجمعة كان عليهم في ذلك مشقة ، و الجمعة تسقط بالمشقة .
الثاني : تسقط الجمعة عمن صلى العيد من أهل القرى و أهل البلد ، و لكن يجب الظهر .
و هو مذهب الإمام أحمد ، و اختاره ابن قدامة و احتج له بحديث زيد بن أرقم قال : صلى النبي صلى الله عليه و سلم العيد ثم رخص في الجمعة فقال : " من شاء أن يُصلي فليصل "(2) .
و في لفظ لأحمد : " من شاء أن يجمع فليجمع "(3) .
قال ابن قدامة : " و لأن الجمعة إنما زادت عن الظهر بالخطبة ، و قد حصل سماعها في العيد فأجزأ عن سماعها ثانياً ، و لأن وقتهما واحد بما بيناه ، فسقطت إحداهما بالأخرى ، كالجمعة مع الظهر .
و في وجوبها على الإمام روايتان :
الأولى : لا تسقط ، لقوله عليه الصلاة و السلام : " قد اجتمع في يومكم هذا عيدان ، فمن شاء أجزأه من الجمعة ، و إنا مجمعون "(4) .
و لأن الإمام لو تركها لامتنع فعل الجمعة في حق من تجب عليه ، و من يريدها ممن سقطت عنه ، بخلاف غيره من الناس .
الثانية : تسقط ، لعموم قوله : " فمن شاء " ، و لما أخرجه النسائي و أبو داود عن وهب بن كيسان قال : اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير ، فأخَّر الخروج حتى تعالى النهار ، ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى ، و لم يصلَّ للناس يوم الجمعة فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أصاب السنة (1).
و في رواية أبي داود : " فجمعهما جميعاً فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر "(2) .
قال الشوكاني : " و يدل علي أن الترخيص عام لكل أحد ترك ابن الزبير للجمعة ، و هو الإمام إذ ذاك ، و قول ابن عباس : أصاب السنة ، رجاله رجال الصحيح ، و عدم الإنكار عليه من أحد من الصحابة ، و أيضاً لو كانت الجمعة واجبة علي البعض لكانت فرض كفاية ، و هو خلاف معنى الرخصة "(3) .
قال المنبر: و هذا الذي ذكره الإمام الشوكاني رحمه الله فيه نظر ، إذ يحتمل أن يكون ابن الزبير رضى الله عنه قد قدَّم الجمعة إلي قبل الزوال علي القول بذلك ، بل هذا هو الظاهر لأن الزبير أخر الصلاة عن الخطبة ، و معلوم أن خطبة العيد تتأخر عن الصلاة بخلاف الجمعة .
و يؤيده قول ابن عباس : أصاب السنة ، إذ السنة في حق الإمام صلاة الجمعة و إن صلى العيد ، كما هو ظاهر قوله صلى الله عليه و سلم : " و إنا مجمعون " ، و الله أعلم .
الثالث : لا تسقط عن أهل البلد و لا أهل القرى .
و هو قول أبي حنيفة ، و ابن حزم .
و احتج أصحاب هذا القول بعموم الآية ، و الأضرار الدالة علي وجوبها ، قالوا : و لأنهما صلاتان واجبتان ، فلم تسقط إحداهما بالأخرى .
و قال ابن حزم : و لا يصح أثر بخلاف ذلك (4).
و قد أجاب ابن قدامة علي أدلة أصحاب القول الثالث فقال : " ما احتجوا به مخصوص بما رويناه ، و قياسهم منقوض بالظهر مع الجمعة " (5).
و أما الشافعية و من وافقهم فقد تأولوا الأخبار في سقوط الجمعة عمن صلى العيد علي أهل القرى .و حديث زيد نص في موضع النزاع ، و هو عام في أهل البلد و غيرهم .
و أما الإمام فلا تسقط عنه لما ذكرناه ، و الله أعلم .
اختلف العلماء في هذه المسألة علي قولين :
الأول : تجب الظهر علي من صلى العيد و لم يصل الجمعة . و هو قول جمهور العلماء .
الثاني : لا تجب الظهر علي من صلى العيد .
وهذا قول عطاء ، و قال ابن المنذر : و روينا نحوه عن علي بن أبي طالب و ابن الزبير رضى الله عنهم(1) .
و احتج عطاء بما رواه هو قال : " اجتمع يوم الجمعة و يوم عيد علي عهد ابن الزبير ، فقال : عيدان اجتمعا فجمعها جميعاً فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر "(2) .
قال الشوكاني : " قوله : " لم يزد عليهما حتى صلى العصر " ، ظاهره أنه لم يصل الظهر ، و فيه أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه المسوغة لم يجب علي من سقطت عنه أن يصلي الظهر ، و إليه ذهب عطاء "(3) .
قال الخطابي : " و هذا لا يجوز أن يحمل إلا علي قول من يذهب إلي تقديم الجمعة قبل الزوال ، فعلى هذا يكون ابن الزبير قد صلى الجمعة فسقط العيد و الظهر ، و لأن الجمعة إذا سقطت مع تأكدها ، فالعيد أولى أن يسقط بها ، أما إذا قدم العيد ، فإنه يحتاج إلي أن يُصلي الظهر في وقتها إذا لم يصل الجمعة "(4) .
و تعقب الشوكاني هذا التوجيه فقال : و لا يخفى ما في هذا الوجه من التعسف (5).
و يشهد لتوجيه الخطابي ما جاء في رواية النسائي : اجتمع عيدان علي عهد ابن الزبير فأخّر الخروج حتى تعالى النهار ، ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى ، و لم يصل للناس يوم الجمعة ، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أصاب السنة(1) . ففيها أن الصلاة بعد الخطبة و هذا معلوم أنه في الجمعة لا في العيد . و كذلك قول ابن عباس : أصاب السنة ، ظاهره أنها الجمعة ، إذ السنة في حق الإمام صلاة الجمعة و إن صلى العيد كما هو الظاهر قوله صلى الله عليه و سلم : " و إنا مجمعون " .
هــــــــــــــــذا و الله أعلـــــــــــــــم
وصلى الله على الصادق المصدوق سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسسلم