ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
زوال الإحصار بالعمرة :
56 - معلوم أنّ وقت العمرة جميع العمر ، فلا يتأتّى فيها كلّ الحالات الّتي ذكرت في زوال الإحصار بالحجّ . ويتأتّى فيها عند الحنفيّة الأحوال التّالية : الحال الأولى : أن يزول الإحصار قبل البعث بالهدي . وهذا يلزمه التّوجّه لأداء العمرة ووجهه ظاهر وقد تقدّم . الحال الثّانية : أن يتمكّن بعد زوال الإحصار من إدراك الهدي والعمرة ، وهذا يلزمه التّوجّه لأداء العمرة أيضاً كما تقدّم . الحال الثّالثة : أن يتمكّن من إدراك العمرة فقط دون الهدي . وهذه حكمها في الاستحسان ألاّ يلزمه التّوجّه ، وفي القياس أن يلزمه التّوجّه . وأمّا المالكيّة فقالوا : أ - إن انكشف العدوّ عن المحصر بالعمرة وكان بعيداً من مكّة وبلغ أن يحلّ فله أن يحلّ .
ب - وإن انكشف العدوّ وكان قريباً من مكّة " ينبغي ألاّ يتحلّل ، لأنّه قادر على فعل العمرة ، كما لو انكشف العدوّ في الحجّ والوقت متّسع » . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فعندهم : أ - إن انصرف العدوّ قبل تحلّل المحصر بالعمرة لم يجز له التّحلّل ، ووجب عليه أداء العمرة .
ب - إن انصرف العدوّ بعد التّحلّل وكانت العمرة الّتي تحلّل عنها واجبةً ، وجب عليه قضاؤها ، لكنّه لا يلزم به في وقت معيّن ؛ لأنّ العمرة غير مؤقّتة .
ج - إن زال الحصر بعد التّحلّل وكانت العمرة تطوّعاً فعلى القول بعدم وجوب قضاء التّطوّع لا شيء عليه .
تفريع على التّحلّل وزوال الإحصار :
أ - ( فرع ) في تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد ثمّ زوال إحصاره :
57 - يتفرّع على تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد ثمّ زوال إحصاره : أنّه إذا تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد ، ثمّ زال الإحصار وفي الوقت متّسع ، فإنّه يقضي الحجّ الفاسد من سنته ، ويلزمه ذلك بناءً على من ذهب إلى أنّ القضاء على الفور . وهذه لطيفة : أن يتمكّن من قضاء الحجّ الفاسد في سنة الإفساد نفسها ، ولا يمكن أن يتحقّق ذلك إلاّ في هذه المسألة . وهذا متّفق عليه .
ب - ( فرع ) في الإحصار بعد الإحصار :
58 - إن بعث المحصر بالهدي إلى الحرم ثمّ زال إحصاره ، وحدث إحصار آخر ، فإن علم المحصر أنّه يدرك الهدي حيّاً ، ونوى به التّحلّل من إحصاره الثّاني بعد تصوّر إدراكه جاز وحلّ به ، إن صحّت شروطه ، وإن لم ينو لم يجز أصلاً . وهذا بناءً على مذهب الحنفيّة بوجوب بعث المحصر هديه إلى الحرم ، أمّا عند غيرهم فهو إحصار قبل التّحلّل ، يتحلّل منه بما يتحلّل من الإحصار السّابق واللّه تعالى أعلم .
إحصان
التّعريف
1 - الإحصان في اللّغة : معناه الأصليّ المنع ، ومن معانيه : العفّة والتّزوّج والحرّيّة . ويختلف تعريفه في الاصطلاح بحسب نوعيه : الإحصان في الزّنا ، والإحصان في القذف . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
2 - أهمّ شروط إحصان الرّجم لعقوبة الزّنا : التّزوّج ، وهو ممّا تعتريه الأحكام التّكليفيّة الخمسة على تفصيل موطنه مصطلح « نكاح » . وأهمّ شروط إحصان القذف العفّة ، وهي مطلوبة شرعاً ، وورد فيها كثير من الآيات والأحاديث ، كقوله تعالى : { وليستعفف الّذين لا يجدون نكاحاً } .
أنواع الإحصان : الإحصان نوعان :
3 - أ - إحصان الرّجم : وهو مجموعة من الشّروط إذا توفّرت في الزّاني كان عقابه الرّجم فالإحصان هيئة يكوّنها اجتماع الشّروط الّتي هي أجزاؤه ، وهي ثمانية ، وكلّ جزء علّة . فكلّ واحد من تلك الأجزاء شرط وجوب الرّجم .
4 - ب - إحصان القذف : وهو عبارة عن اجتماع صفات في المقذوف تجعل قاذفه مستحقّاً للجلد . وتختلف هذه الصّفات بحسب كيفيّة القذف : بالاتّهام بالزّنا ، أو بنفي النّسب .
حكمة مشروعيّة الإحصان :
5 - سيأتي أنّ إحصان الرّجم هو أن يكون حرّاً عاقلاً بالغاً مسلماً قد تزوّج امرأةً نكاحاً صحيحاً ودخل بها وهما على صفة الإحصان . والحكمة في اشتراط ذلك أنّ العقل والبلوغ شرط لأهليّة العقوبة ، إذ لا خطاب دونهما ، وما وراءهما يشترط لتكامل الجناية بواسطة تكامل النّعمة ، إذ كفران النّعمة يتغلّظ عند تكثّرها . وهذه الأشياء من جلائل النّعم ، وقد شرع الرّجم بالزّنا عند استجماعها فيناط به بخلاف الشّرف والعلم ؛ لأنّ الشّرع ما ورد به باعتبارهما ، ونصب الشّرع بالرّأي متعذّر ؛ ولأنّ الحرّيّة ممكّنة من النّكاح الصّحيح ، والنّكاح الصّحيح ممكّن من الوطء الحلال ، والإصابة شبع بالحلال ، والإسلام يمكّنه من نكاح المسلمة ويؤكّد اعتقاد الحرمة فيكون الكلّ مزجرةً عن الزّنا ، والجناية بعد توفّر الزّواجر أغلظ . وأمّا اشتراط العفّة في إحصان القذف فلأنّ غير العفيف لا يلحقه العار بنسبته إلى الزّنا ؛ لأنّ تحصيل الحاصل محال . ولو لحقه عار آخر فهو صدق ، وحدّ القذف للفرية لا للصّدق .
شروط إحصان الرّجم :
6 - اتّفق الفقهاء على بعض شروط الإحصان في جريمة الزّنا ، واختلفوا في البعض الآخر فمن الشّروط المتّفق عليها : أوّلاً وثانياً : البلوغ والعقل : وهما شرطان لأصل التّكليف ، فيجب توفّرهما في المحصن وغير المحصن وقت ارتكاب الجريمة ، فالوطء الّذي يحصن يشترط أن يكون من بالغ عاقل فإذا حصل الوطء من صبيّ ومجنون ثمّ بلغ أو عقل بعد الوطء لم يكن بالوطء السّابق محصناً . وإذا زنى عوقب بالجلد على أنّه غير محصن . وخالف في هذا بعض أصحاب الشّافعيّ وهو المرجوح في المذهب ، فقالوا : إنّ الواطئ يصير محصناً بالوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون . وحجّتهم أنّ ذلك الوطء وطء مباح ، فيجب أن يثبت به الإحصان ، لأنّ النّكاح إذا صحّ قبل البلوغ وأثناء الجنون فإنّ الوطء يصبح تبعاً له . وحجّة جمهور الفقهاء أنّ الرّجم عقوبة الثّيّب ، ولو اعتبرت الثّيوبة حاصلةً بالوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون لوجب رجم الصّغير والمجنون ، وهذا ما لا يقول به أحد . وعند مالك ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ووجه للحنابلة ، أنّه يكفي أن تتوفّر شروط الإحصان في أحد الزّوجين ليكون محصناً بغضّ النّظر عمّا إذا كان الزّوج الآخر تتوفّر فيه هذه الشّروط أم لا ، إلاّ أنّ المالكيّة لا يعتبرون الزّوجة محصنةً إلاّ إذا كان واطئها بالغاً : فشرط تحصين الذّكر أن تتوفّر فيه شروط الإحصان مع إطاقة موطوءته له ولو كانت صغيرةً أو مجنونةً ، وتتحصّن الأنثى عند المالكيّة بتوفّر شروط الإحصان فيها وببلوغ واطئها ولو كان مجنوناً . واشترط الحنفيّة - وهو مقابل الصّحيح عند الشّافعيّة ووجه للحنابلة - البلوغ والعقل في الطّرفين عند الوطء ليكون كلّ منهما محصناً فإن توافر في أحدهما فقط لم يعتبر أيّ منهما محصناً . وللحنابلة وجه آخر بالنّسبة للصّغيرة الّتي لم تبلغ تسعاً ولا يشتهى مثلها فإنّه لا يعتبر وطء البالغ العاقل لها إحصاناً .
7 - ثالثاً : الوطء في نكاح صحيح :
يشترط لقيام الإحصان أن يوجد وطء في نكاح صحيح ، وأن يكون الوطء في القبل ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « والثّيّب بالثّيّب الجلد والرّجم » ، والثّيوبة تحصل بالوطء في القبل ، ولا خلاف في أنّ عقد النّكاح الخالي من الوطء لا يحصل به إحصان ولو حصلت فيه خلوة صحيحة أو وطء فيما دون الفرج ، أو وطء في الدّبر ؛ لأنّ هذه أمور لا تعتبر بها المرأة ثيّباً ، ولا تخرج عن الأبكار اللاّئي حدّهنّ الجلد . والوطء المعتبر هو الإيلاج في القبل على وجه يوجب الغسل سواء أنزل أو لم ينزل . وإن كان الوطء في غير نكاح كالزّنى ووطء الشّبهة فلا يصير الواطئ به محصناً باتّفاق . ويشترط في النّكاح أن يكون صحيحاً ، فإن كان فاسداً فإنّ الوطء فيه لا يحصن ، وهذا رأي جمهور الفقهاء ؛ لأنّه وطء في غير ملك فلا يحصل به إحصان كوطء الشّبهة . ويشترط إذا كان الوطء في نكاح صحيح ألاّ يكون وطئاً محرّماً كالوطء في الحيض أو الإحرام ، فإنّ الوطء الّذي يحرّمه الشّارع لا يحصن ولو كان في النّكاح صحيح . وزاد المالكيّة اشتراط أن يكون النّكاح الصّحيح لازماً . ويترتّب على ذلك أنّه لو كان في أحد الزّوجين عيب أو غرر يثبت به الخيار فلا يتحقّق به الإحصان . وقال أبو ثور : يحصل الإحصان بالوطء في نكاح فاسد ، وحكي ذلك عن اللّيث والأوزاعيّ ؛ لأنّ الصّحيح والفاسد سواء في أكثر الأحكام مثل وجوب المهر وتحريم الرّبيبة وأمّ المرأة ولحوق الولد ، فكذلك في الإحصان .
8 - ويتفرّع على اشتراط الوطء في القبل ما يلي : أ - وطء الخصيّ إذا كان لا يجامع ، وكذلك المجبوب والعنّين لا يحصن الموطوءة ، على أنّه إن جاءت بولد وثبت نسبه من الزّوج فالخصيّ والعنّين يحصنان الزّوجة ؛ لأنّ الحكم بثبوت النّسب حكم بالدّخول . والمجبوب عند أكثر العلماء لا تصير الزّوجة به محصنةً لعدم الآلة . ولا يتصوّر الجماع بدونها وثبوت حكم الإحصان يتعلّق بالجماع ، وخالف في ذلك زفر ؛ لأنّ الحكم بثبوت النّسب من المجبوب يجعل الزّوجة محصنةً .
ب - وطء الرّتقاء لا يحصنها لانعدام الجماع مع الرّتق ، كما أنّه لا يصبح محصناً بذلك إلاّ إذا وطئ غيرها بالشّروط السّابقة .
رابعاً الحرّيّة :
9 - الرّقيق ليس بمحصن ولو مكاتباً أو مبعّضاً أو مستولدةً لأنّه على النّصف من الحرّ ، والرّجم لا نصف له وإيجابه كلّه يخالف النّصّ مع مخالفة الإجماع . قال اللّه تعالى : { فإن أتين بفاحشة فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب } . وخالف في ذلك أبو ثور وقال : العبد والأمة هما محصنان يرجمان إذا زنيا . وحكي عن الأوزاعيّ في العبد تحته حرّة هو محصن ، وإن كان تحته أمة لم يرجم . ثمّ ذهب الفقهاء إلى أنّ العبد إذا عتق مع امرأته الأمة فإن جامعها بعد العتق يكونا محصنين ، علما بالعتق أو لم يعلما . وكذا لو نكح الحرّ أمةً أو الحرّة عبد فلا إحصان إلاّ أن يطأها بعد العتق .
خامساً : الإسلام :
10 - أمّا شرط الإسلام فالشّافعيّ وأحمد وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون الإسلام في إحصان الرّجم ، فإن تزوّج المسلم ذمّيّةً فوطئها صارا محصنين ، لما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنّه قال : « جاء اليهود إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنّ رجلاً منهم وامرأةً زنيا فأمر بهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم » . متّفق عليه ؛ ولأنّ الجناية بالزّنى استوت من المسلم والذّمّيّ ، فيجب أن يستويا في الحدّ . وعلى هذا يكون الذّمّيّان محصنين . وحدّهما الرّجم إذا زنيا فبالأولى إذا كانت الذّمّيّة زوجةً لمسلم . وجعل مالك وأبو حنيفة الإسلام شرطاً من شروط الإحصان ، فلا يكون الكافر محصناً ، ولا تحصن الذّمّيّة مسلماً عند أبي حنيفة ؛ لأنّ « كعب بن مالك لمّا أراد الزّواج من يهوديّة نهاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال : إنّها لا تحصنك » ، ولأنّه إحصان من شرطه الحرّيّة فكان الإسلام شرطاً فيه كإحصان القذف . وعلى هذا فالمسلم المتزوّج من كتابيّة إذا زنى يرجم عند أكثر الفقهاء ولا يرجم عند أبي حنيفة لأنّه لا يعتبر محصناً ؛ لأنّ الكتابيّة عنده لا تحصن المسلم . ونظراً لأنّ مالكاً - وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ووجه عند الحنابلة - لا يعتبر توفّر شروط الإحصان في الزّوجين فقد قال برأي الجمهور : أنّ الذّمّيّة تحصن المسلم ، ويستحقّ الرّجم إذا زنى . أمّا وجود الكمال في الطّرفين بمعنى وجود شروط الإحصان في الواطئ والموطوءة حال الوطء الّذي يترتّب عليه الإحصان فيرى أبو حنيفة وأحمد - وهو رأي عند الشّافعيّ - أنّ هذا من شروط الإحصان ، فيطأ مثلاً الرّجل العاقل امرأةً عاقلةً . وإذا لم تتوفّر هذه الشّروط في أحدهما فهما غير محصنين . فالزّاني المتزوّج من مجنونة أو صغيرة غير محصن ولو كان هو نفسه عاقلاً بالغاً ، ولكنّ مالكاً لا يشترط هذا ويكفي عنده أن تتوفّر شروط الإحصان في أحد الزّوجين ليكون محصناً بغضّ النّظر عمّا إذا كان الآخر تتوفّر فيه هذه الشّروط أم لا .
أثر الإحصان في الرّجم :
11 - ممّا سبق يتبيّن ما اتّفق عليه الفقهاء من شروط الإحصان وما اختلفوا فيه ، وإذا كان بعض الفقهاء يوجب توفّر هذه الشّروط في كلّ من الزّوجين لاعتبار أحدهما محصناً فإنّ الفقهاء جميعاً لا يشترطون إحصان كلّ من الزّانيين ، فإذا كان أحدهما محصناً والثّاني غير محصن رجم المحصن وجلد غير المحصن ، لما روي « أنّ رجلاً من الأعراب أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أنشدك اللّه إلاّ قضيت لي بكتاب اللّه ، وقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه - : نعم فاقض بيننا بكتاب اللّه وأذن لي ، فقال صلى الله عليه وسلم قل ، فقال : إنّ ابني كان عسيفاً على هذا ، فزنى بامرأته ، وإنّي أخبرت أنّ على ابني الرّجم ، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أنّ على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأنّ على امرأة هذا الرّجم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : والّذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب اللّه . الوليدة والغنم ردّ عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام . واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها . قال : فغدا عليها فاعترفت ، فأمر بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرجمت » . وممّا تجدر الإشارة إليه أنّه لا يجب بقاء النّكاح لبقاء الإحصان ، فلو نكح في عمره مرّةً ثمّ طلّق وبقي مجرّداً ، وزنى رجم .
إثبات الإحصان :
12 - يثبت الإحصان في الرّجم بالإقرار الصّحيح وهو ما صدر من عاقل مختار فيجب أن يكون المقرّ بالإحصان عاقلاً مختاراً ؛ لأنّ المكره والمجنون لا حكم لكلامهما كما يثبت بشهادة الشّهود ، ويرى مالك والشّافعيّ وأحمد وزفر أنّه يكفي في إثبات الإحصان شهادة رجلين ؛ لأنّه حالة في الشّخص لا علاقة لها بواقعة الزّنى ، فلا يشترط أن يشهد بالإحصان أربعة رجال كما هو الحال في الزّنى . ولكنّ أبا يوسف ومحمّداً يريان أنّ الإحصان يثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين . وكيفيّة الشّهادة أن يقول الشّهود : تزوّج امرأةً وجامعها أو باضعها ، ولو قال : دخل بها يكفي عند أبي حنيفة وأبي يوسف ؛ لأنّه متى اقترن الدّخول بحرف الباء يراد به الجماع ، وقال محمّد : لا يكفي ؛ لأنّ الدّخول يطلق على الخلوة بها .
ثبوت حدّ المحصن :
13 - اتّفق الفقهاء على وجوب رجم المحصن إذا زنى حتّى يموت ، رجلاً كان أو امرأةً ، مع خلاف في الجمع بين الجلد والرّجم . وعقوبة الرّجم ثابتة بالسّنّة والإجماع . فالرّجم ثابت عن الرّسول صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً على تفصيل محلّه مصطلح « زنى » .
إحصان القذف
14 - لصيانة أعراض ذوي العفّة من الرّجال والنّساء حرّم اللّه قذف المحصنين والمحصنات ورتّب على ذلك عقوبةً دنيويّةً وأخرويّةً . شروط إحصان القذف :
15 - المحصن الّذي يحدّ قاذفه هو من تتوفّر فيه الشّروط الآتية باتّفاق الفقهاء ، إذا كان القذف بالزّنا ، أمّا في حالة نفي النّسب فيشترط أبو حنيفة فضلاً عن ذلك أن تكون الأمّ مسلمةً وأن تكون حرّةً . أ - الحرّيّة : فلا حدّ على قاذف العبد والأمة .
ب - الإسلام : فلا حدّ على قاذف مرتدّ أو كافر أصليّ ؛ لأنّه غير محصن . وإنّما اعتبر الكافر محصناً عند أكثر أهل العلم في حدّ الزّنا دون حدّ القذف لأنّ حدّه في الزّنا بالرّجم إهانة له ، وحدّ قاذف الكافر إكرام له ، والكافر ليس من أهل الإكرام . ج ، د - العقل والبلوغ : خرج الصّبيّ والمجنون لأنّه لا يتصوّر منهما الزّنا ، أو هو فعل محرّم ، والحرمة بالتّكليف ، وأبو حنيفة والشّافعيّ يشترطان البلوغ مطلقاً ، سواء أكان المقذوف ذكراً أم أنثى ، ولا يشترط مالك البلوغ في الأنثى ، ولكنّه يشترطه في الغلام ، ويعتبر الصّبيّة محصنةً إذا كانت تطيق الوطء ، أو كان مثلها يوطأ ولو لم تبلغ ، لأنّ مثل هذه الصّبيّة يلحقها العار . واختلفت الرّوايات عن أحمد في اشتراط البلوغ ، ففي رواية أنّ البلوغ شرط يجب توفّره في المقذوف ؛ لأنّه أحد شرطي التّكليف ، فأشبه العقل ؛ ولأنّ زنى الصّبيّ لا يوجب حدّاً ، فلا يجب الحدّ بالقذف به ، كزنى المجنون . وفي رواية ثانية أنّ البلوغ ليس شرطاً ، لأنّه حرّ عاقل عفيف يتعيّر بهذا القول الممكن صدقه ، فأشبه الكبير . وعلى هذه الرّواية لا بدّ أن يكون كبيراً ممّن يتأتّى منه الجماع . ويرجع فيه إلى اختلاف البلاد .
هـ - العفّة عن الزّنى : معنى العفّة عن الزّنى ألاّ يكون المقذوف وطئ في عمره وطئاً حراماً في غير ملك ولا نكاح أصلاً ، ولا في نكاح فاسد فساداً مجمعاً عليه ، فإن كان قد فعل شيئاً من ذلك سقطت عفّته ، سواء كان الوطء زنًى موجباً للحدّ أم لا ، فالعفّة الفعليّة يشترطها الأئمّة الثّلاثة ، وأحمد يكتفي بالعفّة الظّاهرة عن الزّنى ، فمن لم يثبت عليه الزّنا ببيّنة أو إقرار ، ومن لم يحدّ للزّنا فهو عفيف . ثمّ إن كان القذف بنفي النّسب حدّ اتّفاقاً ، وإن كان بالزّنى فيمن لا يتأتّى منه الوطء فلا يحدّ قاذفه عند أبي حنيفة والشّافعيّ ومالك . وقالوا : لا حدّ على قاذف المجبوب ، وقال ابن المنذر : وكذلك الرّتقاء ، وقال الحسن : لا حدّ على قاذف الخصيّ ، لأنّ العار منتف عن هؤلاء للعلم بكذب القاذف ، والحدّ إنّما يجب لنفي العار . وعند أحمد يجب الحدّ على قاذف الخصيّ والمجبوب والمريض والرّتقاء والقرناء لعموم قوله تعالى : { والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً } . والرّتقاء داخلة في عموم هذا ، ولأنّه قاذف لمحصن فيلزمه الحدّ كقاذف القادر على الوطء ؛ ولأنّ إمكان الوطء أمر خفيّ لا يعلمه كثير من النّاس فلا ينتفي العار عند من لم يعلمه بدون الحدّ ، فيجب كقذف المريض .
إثبات الإحصان في القذف
16 - كلّ مسلم محمول على العفّة ما لم يقرّ بالزّنى ، أو يثبت عليه بأربعة عدول ، فإذا قذف إنسان بالزّنى فالمطالب بإثبات الزّنى وعدم العفّة هو القاذف ، لقوله تعالى : { والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً } . وأمّا المقذوف فلا يطالب بإثبات العفّة ؛ لأنّ النّاس محمولون عليها حتّى يثبت القاذف خلافه ، فإذا أقرّ القاذف بإحصان المقذوف ثبت الإحصان . وإن أنكر القاذف الإحصان فعليه أن يقيم البرهان على سقوط عفّة المقذوف ، فإن عجز عن الإثبات فليس له أن يحلّف المقذوف .
سقوط الإحصان :
17 - يسقط الإحصان بفقد شرط من شروطه ، فمن أصابه جنون أو عنّة أو رقّ بطل إحصانه . والمرتدّ يبطل إحصانه عند من يجعل الإسلام شرطاً في الإحصان . ولا حدّ على القاذف إذا تخلّف شرط من شروط الإحصان في المقذوف ، وإنّما عليه التّعزير إذا عجز عن إثبات صحّة ما قذف به . ويرى الأئمّة الثّلاثة توفّر شروط الإحصان إلى حالة إقامة الحدّ ، خلافاً لأحمد فإنّه يرى أنّ الإحصان لا يشترط إلاّ وقت القذف ولا يشترط بعده .
أثر الإحصان في القذف :
18 - إحصان المقذوف يوجب عقوبتين : جلد القاذف ، وهي عقوبة أصليّة ، وعدم قبول شهادته ، وهي عقوبة تبعيّة على تفصيل موطنه مصطلح : « قذف » .
أثر الرّدّة على الإحصان بنوعيه :
19 - لو ارتدّ المحصن لا يبطل إحصانه عند من لا يشترط الإسلام في الإحصان كالشّافعيّ وأحمد ، ويوافقهما أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة . وحجّتهم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجم يهوديّين زنيا ، ولو كان الإسلام شرطاً في الإحصان ما رجمهما . ثمّ هذا داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : « أو زنًى بعد إحصان " ؛ ولأنّه زنًى بعد إحصان فكان حدّه الرّجم كالّذي لم يرتدّ . ونظراً لأنّ أبا حنيفة يجعل الإسلام شرطاً في الإحصان فالمحصن إذا ارتدّ يبطل إحصانه . وحجّته حديث الرّسول صلى الله عليه وسلم : « من أشرك باللّه فليس بمحصن » . فكذلك المرتدّ لا يبقى محصناً لفقد شرط من شروط الإحصان وهو الإسلام . وبهذا أخذ مالك ، وذهب إلى أنّه إذا ثبت للرّجل والمرأة حكم الإحصان سواء في إحصان الرّجم أو القذف ، ثمّ ارتدّ عن الإسلام فإنّه يسقط عنه حكم الإحصان ، فإن رجع إلى الإسلام لم يكن محصناً إلاّ بإحصان مستأنف . واستدلّ مالك على ذلك بقول اللّه تعالى : { لئن أشركت ليحبطنّ عملك } وهذا قد أشرك ، فوجب أن يحبط كلّ عمل كان عمله .
إحلال
التّعريف
1 - الإحلال في اللّغة مصدر أحلّ ضدّ حرّم ، يقال : أحللت له الشّيء ، أي جعلته له حلالاً . ويأتي بمعنًى آخر وهو أحلّ لغة في حلّ ، أي دخل في أشهر الحلّ ، أو جاوز الحرم ، أو حلّ له ما حرم عليه من محظورات الحجّ . ولم يستعمل الفقهاء ، لفظ « إحلال " إلاّ للتّعبير عن معاني غيره من الألفاظ المشابهة مثل " استحلال ، وتحليل ، وتحلّل ، وحلول " فهي الّتي أكثر الفقهاء استعمالها ، لكنّهم استعملوا " الإحلال " بمعنى الإبراء من الدّين أو المظلمة . وأمّا استعمال البعض الإحلال بالمعنى اللّغويّ فيراد به الإطلاقات التّالية : أ - ففي مسألة الخروج من الإحرام عبّر الفقهاء بالتّحلّل ، أمّا التّعبير بالإحلال في هذه المسألة فهو لغويّ . ( ر : تحلّل ) .
ب - وفي مسألة جعل المحرم حلالاً عبّر الفقهاء بالاستحلال ، سواء كان قصداً أو تأويلاً . ( ر : استحلال ) .
ج - وفي المطلّقة ثلاثاً عبّروا بالتّحليل ( ر : تحليل ) .
د - وفي الدّين المؤجّل إذا حلّ عبّروا بالحلول ( ر حلول ) . الحكم الإجماليّ :
2 - يختلف الحكم بحسب اختلاف إطلاق لفظ ( إحلال ) على ما سبق في التّعريف . مواطن البحث :
3 - يرجع في كلّ إطلاق إلى مصطلحه
إحماء
انظر : حمو إحياء .
البيت الحرام
التّعريف
1 - الإحياء مصدر " أحيا " وهو جعل الشّيء حيّاً ، أو بثّ الحياة في الهامد ، ومنه قولهم : أحياه اللّه إحياءً ، أي جعله حيّاً ، وأحيا اللّه الأرض ، أي أخصبها بعد الجدب ، جاء في كتاب اللّه تعالى : { واللّه الّذي أرسل الرّياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النّشور } . ولم يخرج استعمال الفقهاء لكلمة " إحياء " عن المعنى اللّغويّ ، فقالوا : « إحياء الموات " ، وأرادوا بذلك إنبات الأرض المجدبة ، وقالوا : إحياء اللّيل ، وإحياء ما بين العشاءين ، وأرادوا بذلك شغله بالصّلاة والذّكر ، وعدم تعطيله وجعله كالميّت في عطلته . وقالوا : إحياء البيت الحرام ، وأرادوا بذلك دوام وصله بالحجّ والعمرة ، وعدم الانقطاع عنه كالانقطاع عن الميّت ، وهكذا . وقالوا : إحياء السّنّة وأرادوا إعادة العمل بشعيرة من شعائر الإسلام بعد إهمال العمل بها . يختلف الإحياء بحسب ما يضاف إليه ، فهناك : أ - إحياء البيت الحرام .
ب - إحياء السّنّة .
ج - إحياء اللّيل .
د - وإحياء الموات . والمراد بإحياء البيت الحرام عند الفقهاء عمارة البيت بالحجّ ، وبالعمرة أيضاً عند بعضهم ، تشبيهاً للمكان المعمور بالحيّ ، ولغير المعمور بالميّت .
( الحكم الإجماليّ )
2 - نصّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ إحياء البيت الحرام بالحجّ فرض كفاية كلّ عام على المسلمين في الجملة . وهذا لا يتعارض مع كونه فرض عين في العمر مرّة واحدة على كلّ من استطاع إليه سبيلاً كما هو معلوم من الدّين بالضّرورة ؛ لأنّ المسألة مفروضة فيما إذا لم يحجّ عدد من المسلمين فرضاً ولا تطوّعاً ممّن يحصل بهم الشّعار عرفاً في كلّ عام ، فإنّ الإثم يلحق الجميع ، إذ المقصود الأعظم ببناء الكعبة هو الحجّ ، فكان به إحياؤها ، ولما أخرجه عبد الرّزّاق في مصنّفه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما : لو ترك النّاس زيارة هذا البيت عاماً واحداً ما أمطروا . ومثل الحجّ في ذلك العمرة عند الشّافعيّة والتّادليّ من المالكيّة . ولا يغني عنهما الطّواف والاعتكاف والصّلاة ونحو ذلك ، وإن كانت هذه الطّاعات واجبةً أيضاً في المسجد الحرام وجوباً على الكفاية ، فإنّ التّعظيم وإحياء البقعة يحصل بجميع ذلك . وتطبيقاً على هذا فقد نصّ المالكيّة على أنّه يجب على إمام المسلمين أن يرسل جماعةً في كلّ سنة لإقامة الموسم ، فإن لم يكن هناك إمام فعلى جماعة المسلمين . هذا ولم أجد فيما وقفت عليه نصّاً للحنفيّة على ذلك .
( مواطن البحث )
3 - تناول الفقهاء حكم إحياء البيت الحرام بالتّفصيل في أوّل كتاب الجهاد ، لمناسبة حكم الجهاد ، وهو الوجوب الكفائيّ ، حيث تعرّضوا لتعريف الواجب على الكفاية وذكر شيء من فروض الكفايات وأحكامها ، كما ذكره بعضهم في أوّل كتاب الحجّ عند الكلام على حكم الحجّ . والّذين جمعوا أحكام المساجد في تآليف خاصّة ، أو عقدوا في كتبهم فصلاً خاصّاً بأحكام المسجد الحرام ، تعرّضوا له أيضاً كالبدر الزّركشيّ رحمه الله في كتابه : « إعلام السّاجد بأحكام المساجد » .
إحياء السّنّة
التّعريف
1 - السّنّة : الطّريقة المسلوكة في الدّين . والمراد بإحياء السّنّة هنا : إعادة العمل بشعيرة من شعائر الإسلام بعد إهمال العمل بها .
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث ) :
2 - إحياء السّنّة المماتة مطلوب شرعاً إمّا على سبيل فرض الكفاية ، وهو الأصل ، وإمّا على سبيل فرض العين ، وإمّا على سبيل النّدب . وتفصيل ذلك في مصطلح : أمر بالمعروف .
إحياء اللّيل
التّعريف
1 - الإحياء في اللّغة جعل الشّيء حيّاً ، ويريد الفقهاء من قولهم : « إحياء اللّيل " قضاء اللّيل أو أكثره بالعبادة ، كالصّلاة والذّكر وقراءة القرآن ونحو ذلك . وبذلك تكون المدّة هي أكثر اللّيل ، ويكون العمل عامّاً في كلّ عبادة .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - قيام اللّيل :
2 - المستفاد من كلام الفقهاء أنّ قيام اللّيل قد لا يكون مستغرقاً لأكثر اللّيل ، بل يتحقّق بقيام ساعة منه . أمّا العمل فيه فهو الصّلاة دون غيرها . وقد يطلقون قيام اللّيل على إحياء اللّيل . فقد قال في مراقي الفلاح : معنى القيام أن يكون مشتغلاً معظم اللّيل بطاعة ، وقيل ساعةً منه ، يقرأ القرآن أو يسمع الحديث أو يسبّح أو يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وكلّ واحد منهما قد يسبقه نوم بعد صلاة العشاء وقد لا يسبقه نوم .
ب - التّهجّد :
3 - التّهجّد لا يكون إلاّ بعد نوم . ولكن يطلقه كثير من الفقهاء على صلاة اللّيل مطلقاً .
مشروعيّته :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّه يندب إحياء اللّيالي الفاضلة الّتي ورد بشأنها نصّ ، كما يندب إحياء أيّ ليلة من اللّيالي ، لقول عائشة رضي الله عنها : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينام أوّل اللّيل ويحيي آخره » ؛ لأنّ التّطوّع بالعبادة في اللّيل ، كالدّعاء والاستغفار في ساعاته مستحبّ استحباباً مؤكّداً ، وخاصّةً في النّصف الأخير من اللّيل ، ولا سيّما في الأسحار ، لقوله تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } ، ولحديث جابر مرفوعاً : « إنّ في اللّيل لساعةً لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللّه خيراً من أمر الدّنيا والآخرة إلاّ أعطاه اللّه إيّاه » رواه مسلم ، فهو ممّا يدخل في النّصوص الكثيرة الّتي تحضّ على العبادة .
56 - معلوم أنّ وقت العمرة جميع العمر ، فلا يتأتّى فيها كلّ الحالات الّتي ذكرت في زوال الإحصار بالحجّ . ويتأتّى فيها عند الحنفيّة الأحوال التّالية : الحال الأولى : أن يزول الإحصار قبل البعث بالهدي . وهذا يلزمه التّوجّه لأداء العمرة ووجهه ظاهر وقد تقدّم . الحال الثّانية : أن يتمكّن بعد زوال الإحصار من إدراك الهدي والعمرة ، وهذا يلزمه التّوجّه لأداء العمرة أيضاً كما تقدّم . الحال الثّالثة : أن يتمكّن من إدراك العمرة فقط دون الهدي . وهذه حكمها في الاستحسان ألاّ يلزمه التّوجّه ، وفي القياس أن يلزمه التّوجّه . وأمّا المالكيّة فقالوا : أ - إن انكشف العدوّ عن المحصر بالعمرة وكان بعيداً من مكّة وبلغ أن يحلّ فله أن يحلّ .
ب - وإن انكشف العدوّ وكان قريباً من مكّة " ينبغي ألاّ يتحلّل ، لأنّه قادر على فعل العمرة ، كما لو انكشف العدوّ في الحجّ والوقت متّسع » . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فعندهم : أ - إن انصرف العدوّ قبل تحلّل المحصر بالعمرة لم يجز له التّحلّل ، ووجب عليه أداء العمرة .
ب - إن انصرف العدوّ بعد التّحلّل وكانت العمرة الّتي تحلّل عنها واجبةً ، وجب عليه قضاؤها ، لكنّه لا يلزم به في وقت معيّن ؛ لأنّ العمرة غير مؤقّتة .
ج - إن زال الحصر بعد التّحلّل وكانت العمرة تطوّعاً فعلى القول بعدم وجوب قضاء التّطوّع لا شيء عليه .
تفريع على التّحلّل وزوال الإحصار :
أ - ( فرع ) في تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد ثمّ زوال إحصاره :
57 - يتفرّع على تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد ثمّ زوال إحصاره : أنّه إذا تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد ، ثمّ زال الإحصار وفي الوقت متّسع ، فإنّه يقضي الحجّ الفاسد من سنته ، ويلزمه ذلك بناءً على من ذهب إلى أنّ القضاء على الفور . وهذه لطيفة : أن يتمكّن من قضاء الحجّ الفاسد في سنة الإفساد نفسها ، ولا يمكن أن يتحقّق ذلك إلاّ في هذه المسألة . وهذا متّفق عليه .
ب - ( فرع ) في الإحصار بعد الإحصار :
58 - إن بعث المحصر بالهدي إلى الحرم ثمّ زال إحصاره ، وحدث إحصار آخر ، فإن علم المحصر أنّه يدرك الهدي حيّاً ، ونوى به التّحلّل من إحصاره الثّاني بعد تصوّر إدراكه جاز وحلّ به ، إن صحّت شروطه ، وإن لم ينو لم يجز أصلاً . وهذا بناءً على مذهب الحنفيّة بوجوب بعث المحصر هديه إلى الحرم ، أمّا عند غيرهم فهو إحصار قبل التّحلّل ، يتحلّل منه بما يتحلّل من الإحصار السّابق واللّه تعالى أعلم .
إحصان
التّعريف
1 - الإحصان في اللّغة : معناه الأصليّ المنع ، ومن معانيه : العفّة والتّزوّج والحرّيّة . ويختلف تعريفه في الاصطلاح بحسب نوعيه : الإحصان في الزّنا ، والإحصان في القذف . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
2 - أهمّ شروط إحصان الرّجم لعقوبة الزّنا : التّزوّج ، وهو ممّا تعتريه الأحكام التّكليفيّة الخمسة على تفصيل موطنه مصطلح « نكاح » . وأهمّ شروط إحصان القذف العفّة ، وهي مطلوبة شرعاً ، وورد فيها كثير من الآيات والأحاديث ، كقوله تعالى : { وليستعفف الّذين لا يجدون نكاحاً } .
أنواع الإحصان : الإحصان نوعان :
3 - أ - إحصان الرّجم : وهو مجموعة من الشّروط إذا توفّرت في الزّاني كان عقابه الرّجم فالإحصان هيئة يكوّنها اجتماع الشّروط الّتي هي أجزاؤه ، وهي ثمانية ، وكلّ جزء علّة . فكلّ واحد من تلك الأجزاء شرط وجوب الرّجم .
4 - ب - إحصان القذف : وهو عبارة عن اجتماع صفات في المقذوف تجعل قاذفه مستحقّاً للجلد . وتختلف هذه الصّفات بحسب كيفيّة القذف : بالاتّهام بالزّنا ، أو بنفي النّسب .
حكمة مشروعيّة الإحصان :
5 - سيأتي أنّ إحصان الرّجم هو أن يكون حرّاً عاقلاً بالغاً مسلماً قد تزوّج امرأةً نكاحاً صحيحاً ودخل بها وهما على صفة الإحصان . والحكمة في اشتراط ذلك أنّ العقل والبلوغ شرط لأهليّة العقوبة ، إذ لا خطاب دونهما ، وما وراءهما يشترط لتكامل الجناية بواسطة تكامل النّعمة ، إذ كفران النّعمة يتغلّظ عند تكثّرها . وهذه الأشياء من جلائل النّعم ، وقد شرع الرّجم بالزّنا عند استجماعها فيناط به بخلاف الشّرف والعلم ؛ لأنّ الشّرع ما ورد به باعتبارهما ، ونصب الشّرع بالرّأي متعذّر ؛ ولأنّ الحرّيّة ممكّنة من النّكاح الصّحيح ، والنّكاح الصّحيح ممكّن من الوطء الحلال ، والإصابة شبع بالحلال ، والإسلام يمكّنه من نكاح المسلمة ويؤكّد اعتقاد الحرمة فيكون الكلّ مزجرةً عن الزّنا ، والجناية بعد توفّر الزّواجر أغلظ . وأمّا اشتراط العفّة في إحصان القذف فلأنّ غير العفيف لا يلحقه العار بنسبته إلى الزّنا ؛ لأنّ تحصيل الحاصل محال . ولو لحقه عار آخر فهو صدق ، وحدّ القذف للفرية لا للصّدق .
شروط إحصان الرّجم :
6 - اتّفق الفقهاء على بعض شروط الإحصان في جريمة الزّنا ، واختلفوا في البعض الآخر فمن الشّروط المتّفق عليها : أوّلاً وثانياً : البلوغ والعقل : وهما شرطان لأصل التّكليف ، فيجب توفّرهما في المحصن وغير المحصن وقت ارتكاب الجريمة ، فالوطء الّذي يحصن يشترط أن يكون من بالغ عاقل فإذا حصل الوطء من صبيّ ومجنون ثمّ بلغ أو عقل بعد الوطء لم يكن بالوطء السّابق محصناً . وإذا زنى عوقب بالجلد على أنّه غير محصن . وخالف في هذا بعض أصحاب الشّافعيّ وهو المرجوح في المذهب ، فقالوا : إنّ الواطئ يصير محصناً بالوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون . وحجّتهم أنّ ذلك الوطء وطء مباح ، فيجب أن يثبت به الإحصان ، لأنّ النّكاح إذا صحّ قبل البلوغ وأثناء الجنون فإنّ الوطء يصبح تبعاً له . وحجّة جمهور الفقهاء أنّ الرّجم عقوبة الثّيّب ، ولو اعتبرت الثّيوبة حاصلةً بالوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون لوجب رجم الصّغير والمجنون ، وهذا ما لا يقول به أحد . وعند مالك ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ووجه للحنابلة ، أنّه يكفي أن تتوفّر شروط الإحصان في أحد الزّوجين ليكون محصناً بغضّ النّظر عمّا إذا كان الزّوج الآخر تتوفّر فيه هذه الشّروط أم لا ، إلاّ أنّ المالكيّة لا يعتبرون الزّوجة محصنةً إلاّ إذا كان واطئها بالغاً : فشرط تحصين الذّكر أن تتوفّر فيه شروط الإحصان مع إطاقة موطوءته له ولو كانت صغيرةً أو مجنونةً ، وتتحصّن الأنثى عند المالكيّة بتوفّر شروط الإحصان فيها وببلوغ واطئها ولو كان مجنوناً . واشترط الحنفيّة - وهو مقابل الصّحيح عند الشّافعيّة ووجه للحنابلة - البلوغ والعقل في الطّرفين عند الوطء ليكون كلّ منهما محصناً فإن توافر في أحدهما فقط لم يعتبر أيّ منهما محصناً . وللحنابلة وجه آخر بالنّسبة للصّغيرة الّتي لم تبلغ تسعاً ولا يشتهى مثلها فإنّه لا يعتبر وطء البالغ العاقل لها إحصاناً .
7 - ثالثاً : الوطء في نكاح صحيح :
يشترط لقيام الإحصان أن يوجد وطء في نكاح صحيح ، وأن يكون الوطء في القبل ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « والثّيّب بالثّيّب الجلد والرّجم » ، والثّيوبة تحصل بالوطء في القبل ، ولا خلاف في أنّ عقد النّكاح الخالي من الوطء لا يحصل به إحصان ولو حصلت فيه خلوة صحيحة أو وطء فيما دون الفرج ، أو وطء في الدّبر ؛ لأنّ هذه أمور لا تعتبر بها المرأة ثيّباً ، ولا تخرج عن الأبكار اللاّئي حدّهنّ الجلد . والوطء المعتبر هو الإيلاج في القبل على وجه يوجب الغسل سواء أنزل أو لم ينزل . وإن كان الوطء في غير نكاح كالزّنى ووطء الشّبهة فلا يصير الواطئ به محصناً باتّفاق . ويشترط في النّكاح أن يكون صحيحاً ، فإن كان فاسداً فإنّ الوطء فيه لا يحصن ، وهذا رأي جمهور الفقهاء ؛ لأنّه وطء في غير ملك فلا يحصل به إحصان كوطء الشّبهة . ويشترط إذا كان الوطء في نكاح صحيح ألاّ يكون وطئاً محرّماً كالوطء في الحيض أو الإحرام ، فإنّ الوطء الّذي يحرّمه الشّارع لا يحصن ولو كان في النّكاح صحيح . وزاد المالكيّة اشتراط أن يكون النّكاح الصّحيح لازماً . ويترتّب على ذلك أنّه لو كان في أحد الزّوجين عيب أو غرر يثبت به الخيار فلا يتحقّق به الإحصان . وقال أبو ثور : يحصل الإحصان بالوطء في نكاح فاسد ، وحكي ذلك عن اللّيث والأوزاعيّ ؛ لأنّ الصّحيح والفاسد سواء في أكثر الأحكام مثل وجوب المهر وتحريم الرّبيبة وأمّ المرأة ولحوق الولد ، فكذلك في الإحصان .
8 - ويتفرّع على اشتراط الوطء في القبل ما يلي : أ - وطء الخصيّ إذا كان لا يجامع ، وكذلك المجبوب والعنّين لا يحصن الموطوءة ، على أنّه إن جاءت بولد وثبت نسبه من الزّوج فالخصيّ والعنّين يحصنان الزّوجة ؛ لأنّ الحكم بثبوت النّسب حكم بالدّخول . والمجبوب عند أكثر العلماء لا تصير الزّوجة به محصنةً لعدم الآلة . ولا يتصوّر الجماع بدونها وثبوت حكم الإحصان يتعلّق بالجماع ، وخالف في ذلك زفر ؛ لأنّ الحكم بثبوت النّسب من المجبوب يجعل الزّوجة محصنةً .
ب - وطء الرّتقاء لا يحصنها لانعدام الجماع مع الرّتق ، كما أنّه لا يصبح محصناً بذلك إلاّ إذا وطئ غيرها بالشّروط السّابقة .
رابعاً الحرّيّة :
9 - الرّقيق ليس بمحصن ولو مكاتباً أو مبعّضاً أو مستولدةً لأنّه على النّصف من الحرّ ، والرّجم لا نصف له وإيجابه كلّه يخالف النّصّ مع مخالفة الإجماع . قال اللّه تعالى : { فإن أتين بفاحشة فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب } . وخالف في ذلك أبو ثور وقال : العبد والأمة هما محصنان يرجمان إذا زنيا . وحكي عن الأوزاعيّ في العبد تحته حرّة هو محصن ، وإن كان تحته أمة لم يرجم . ثمّ ذهب الفقهاء إلى أنّ العبد إذا عتق مع امرأته الأمة فإن جامعها بعد العتق يكونا محصنين ، علما بالعتق أو لم يعلما . وكذا لو نكح الحرّ أمةً أو الحرّة عبد فلا إحصان إلاّ أن يطأها بعد العتق .
خامساً : الإسلام :
10 - أمّا شرط الإسلام فالشّافعيّ وأحمد وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون الإسلام في إحصان الرّجم ، فإن تزوّج المسلم ذمّيّةً فوطئها صارا محصنين ، لما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنّه قال : « جاء اليهود إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنّ رجلاً منهم وامرأةً زنيا فأمر بهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم » . متّفق عليه ؛ ولأنّ الجناية بالزّنى استوت من المسلم والذّمّيّ ، فيجب أن يستويا في الحدّ . وعلى هذا يكون الذّمّيّان محصنين . وحدّهما الرّجم إذا زنيا فبالأولى إذا كانت الذّمّيّة زوجةً لمسلم . وجعل مالك وأبو حنيفة الإسلام شرطاً من شروط الإحصان ، فلا يكون الكافر محصناً ، ولا تحصن الذّمّيّة مسلماً عند أبي حنيفة ؛ لأنّ « كعب بن مالك لمّا أراد الزّواج من يهوديّة نهاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال : إنّها لا تحصنك » ، ولأنّه إحصان من شرطه الحرّيّة فكان الإسلام شرطاً فيه كإحصان القذف . وعلى هذا فالمسلم المتزوّج من كتابيّة إذا زنى يرجم عند أكثر الفقهاء ولا يرجم عند أبي حنيفة لأنّه لا يعتبر محصناً ؛ لأنّ الكتابيّة عنده لا تحصن المسلم . ونظراً لأنّ مالكاً - وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ووجه عند الحنابلة - لا يعتبر توفّر شروط الإحصان في الزّوجين فقد قال برأي الجمهور : أنّ الذّمّيّة تحصن المسلم ، ويستحقّ الرّجم إذا زنى . أمّا وجود الكمال في الطّرفين بمعنى وجود شروط الإحصان في الواطئ والموطوءة حال الوطء الّذي يترتّب عليه الإحصان فيرى أبو حنيفة وأحمد - وهو رأي عند الشّافعيّ - أنّ هذا من شروط الإحصان ، فيطأ مثلاً الرّجل العاقل امرأةً عاقلةً . وإذا لم تتوفّر هذه الشّروط في أحدهما فهما غير محصنين . فالزّاني المتزوّج من مجنونة أو صغيرة غير محصن ولو كان هو نفسه عاقلاً بالغاً ، ولكنّ مالكاً لا يشترط هذا ويكفي عنده أن تتوفّر شروط الإحصان في أحد الزّوجين ليكون محصناً بغضّ النّظر عمّا إذا كان الآخر تتوفّر فيه هذه الشّروط أم لا .
أثر الإحصان في الرّجم :
11 - ممّا سبق يتبيّن ما اتّفق عليه الفقهاء من شروط الإحصان وما اختلفوا فيه ، وإذا كان بعض الفقهاء يوجب توفّر هذه الشّروط في كلّ من الزّوجين لاعتبار أحدهما محصناً فإنّ الفقهاء جميعاً لا يشترطون إحصان كلّ من الزّانيين ، فإذا كان أحدهما محصناً والثّاني غير محصن رجم المحصن وجلد غير المحصن ، لما روي « أنّ رجلاً من الأعراب أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أنشدك اللّه إلاّ قضيت لي بكتاب اللّه ، وقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه - : نعم فاقض بيننا بكتاب اللّه وأذن لي ، فقال صلى الله عليه وسلم قل ، فقال : إنّ ابني كان عسيفاً على هذا ، فزنى بامرأته ، وإنّي أخبرت أنّ على ابني الرّجم ، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أنّ على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأنّ على امرأة هذا الرّجم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : والّذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب اللّه . الوليدة والغنم ردّ عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام . واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها . قال : فغدا عليها فاعترفت ، فأمر بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرجمت » . وممّا تجدر الإشارة إليه أنّه لا يجب بقاء النّكاح لبقاء الإحصان ، فلو نكح في عمره مرّةً ثمّ طلّق وبقي مجرّداً ، وزنى رجم .
إثبات الإحصان :
12 - يثبت الإحصان في الرّجم بالإقرار الصّحيح وهو ما صدر من عاقل مختار فيجب أن يكون المقرّ بالإحصان عاقلاً مختاراً ؛ لأنّ المكره والمجنون لا حكم لكلامهما كما يثبت بشهادة الشّهود ، ويرى مالك والشّافعيّ وأحمد وزفر أنّه يكفي في إثبات الإحصان شهادة رجلين ؛ لأنّه حالة في الشّخص لا علاقة لها بواقعة الزّنى ، فلا يشترط أن يشهد بالإحصان أربعة رجال كما هو الحال في الزّنى . ولكنّ أبا يوسف ومحمّداً يريان أنّ الإحصان يثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين . وكيفيّة الشّهادة أن يقول الشّهود : تزوّج امرأةً وجامعها أو باضعها ، ولو قال : دخل بها يكفي عند أبي حنيفة وأبي يوسف ؛ لأنّه متى اقترن الدّخول بحرف الباء يراد به الجماع ، وقال محمّد : لا يكفي ؛ لأنّ الدّخول يطلق على الخلوة بها .
ثبوت حدّ المحصن :
13 - اتّفق الفقهاء على وجوب رجم المحصن إذا زنى حتّى يموت ، رجلاً كان أو امرأةً ، مع خلاف في الجمع بين الجلد والرّجم . وعقوبة الرّجم ثابتة بالسّنّة والإجماع . فالرّجم ثابت عن الرّسول صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً على تفصيل محلّه مصطلح « زنى » .
إحصان القذف
14 - لصيانة أعراض ذوي العفّة من الرّجال والنّساء حرّم اللّه قذف المحصنين والمحصنات ورتّب على ذلك عقوبةً دنيويّةً وأخرويّةً . شروط إحصان القذف :
15 - المحصن الّذي يحدّ قاذفه هو من تتوفّر فيه الشّروط الآتية باتّفاق الفقهاء ، إذا كان القذف بالزّنا ، أمّا في حالة نفي النّسب فيشترط أبو حنيفة فضلاً عن ذلك أن تكون الأمّ مسلمةً وأن تكون حرّةً . أ - الحرّيّة : فلا حدّ على قاذف العبد والأمة .
ب - الإسلام : فلا حدّ على قاذف مرتدّ أو كافر أصليّ ؛ لأنّه غير محصن . وإنّما اعتبر الكافر محصناً عند أكثر أهل العلم في حدّ الزّنا دون حدّ القذف لأنّ حدّه في الزّنا بالرّجم إهانة له ، وحدّ قاذف الكافر إكرام له ، والكافر ليس من أهل الإكرام . ج ، د - العقل والبلوغ : خرج الصّبيّ والمجنون لأنّه لا يتصوّر منهما الزّنا ، أو هو فعل محرّم ، والحرمة بالتّكليف ، وأبو حنيفة والشّافعيّ يشترطان البلوغ مطلقاً ، سواء أكان المقذوف ذكراً أم أنثى ، ولا يشترط مالك البلوغ في الأنثى ، ولكنّه يشترطه في الغلام ، ويعتبر الصّبيّة محصنةً إذا كانت تطيق الوطء ، أو كان مثلها يوطأ ولو لم تبلغ ، لأنّ مثل هذه الصّبيّة يلحقها العار . واختلفت الرّوايات عن أحمد في اشتراط البلوغ ، ففي رواية أنّ البلوغ شرط يجب توفّره في المقذوف ؛ لأنّه أحد شرطي التّكليف ، فأشبه العقل ؛ ولأنّ زنى الصّبيّ لا يوجب حدّاً ، فلا يجب الحدّ بالقذف به ، كزنى المجنون . وفي رواية ثانية أنّ البلوغ ليس شرطاً ، لأنّه حرّ عاقل عفيف يتعيّر بهذا القول الممكن صدقه ، فأشبه الكبير . وعلى هذه الرّواية لا بدّ أن يكون كبيراً ممّن يتأتّى منه الجماع . ويرجع فيه إلى اختلاف البلاد .
هـ - العفّة عن الزّنى : معنى العفّة عن الزّنى ألاّ يكون المقذوف وطئ في عمره وطئاً حراماً في غير ملك ولا نكاح أصلاً ، ولا في نكاح فاسد فساداً مجمعاً عليه ، فإن كان قد فعل شيئاً من ذلك سقطت عفّته ، سواء كان الوطء زنًى موجباً للحدّ أم لا ، فالعفّة الفعليّة يشترطها الأئمّة الثّلاثة ، وأحمد يكتفي بالعفّة الظّاهرة عن الزّنى ، فمن لم يثبت عليه الزّنا ببيّنة أو إقرار ، ومن لم يحدّ للزّنا فهو عفيف . ثمّ إن كان القذف بنفي النّسب حدّ اتّفاقاً ، وإن كان بالزّنى فيمن لا يتأتّى منه الوطء فلا يحدّ قاذفه عند أبي حنيفة والشّافعيّ ومالك . وقالوا : لا حدّ على قاذف المجبوب ، وقال ابن المنذر : وكذلك الرّتقاء ، وقال الحسن : لا حدّ على قاذف الخصيّ ، لأنّ العار منتف عن هؤلاء للعلم بكذب القاذف ، والحدّ إنّما يجب لنفي العار . وعند أحمد يجب الحدّ على قاذف الخصيّ والمجبوب والمريض والرّتقاء والقرناء لعموم قوله تعالى : { والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً } . والرّتقاء داخلة في عموم هذا ، ولأنّه قاذف لمحصن فيلزمه الحدّ كقاذف القادر على الوطء ؛ ولأنّ إمكان الوطء أمر خفيّ لا يعلمه كثير من النّاس فلا ينتفي العار عند من لم يعلمه بدون الحدّ ، فيجب كقذف المريض .
إثبات الإحصان في القذف
16 - كلّ مسلم محمول على العفّة ما لم يقرّ بالزّنى ، أو يثبت عليه بأربعة عدول ، فإذا قذف إنسان بالزّنى فالمطالب بإثبات الزّنى وعدم العفّة هو القاذف ، لقوله تعالى : { والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً } . وأمّا المقذوف فلا يطالب بإثبات العفّة ؛ لأنّ النّاس محمولون عليها حتّى يثبت القاذف خلافه ، فإذا أقرّ القاذف بإحصان المقذوف ثبت الإحصان . وإن أنكر القاذف الإحصان فعليه أن يقيم البرهان على سقوط عفّة المقذوف ، فإن عجز عن الإثبات فليس له أن يحلّف المقذوف .
سقوط الإحصان :
17 - يسقط الإحصان بفقد شرط من شروطه ، فمن أصابه جنون أو عنّة أو رقّ بطل إحصانه . والمرتدّ يبطل إحصانه عند من يجعل الإسلام شرطاً في الإحصان . ولا حدّ على القاذف إذا تخلّف شرط من شروط الإحصان في المقذوف ، وإنّما عليه التّعزير إذا عجز عن إثبات صحّة ما قذف به . ويرى الأئمّة الثّلاثة توفّر شروط الإحصان إلى حالة إقامة الحدّ ، خلافاً لأحمد فإنّه يرى أنّ الإحصان لا يشترط إلاّ وقت القذف ولا يشترط بعده .
أثر الإحصان في القذف :
18 - إحصان المقذوف يوجب عقوبتين : جلد القاذف ، وهي عقوبة أصليّة ، وعدم قبول شهادته ، وهي عقوبة تبعيّة على تفصيل موطنه مصطلح : « قذف » .
أثر الرّدّة على الإحصان بنوعيه :
19 - لو ارتدّ المحصن لا يبطل إحصانه عند من لا يشترط الإسلام في الإحصان كالشّافعيّ وأحمد ، ويوافقهما أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة . وحجّتهم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجم يهوديّين زنيا ، ولو كان الإسلام شرطاً في الإحصان ما رجمهما . ثمّ هذا داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : « أو زنًى بعد إحصان " ؛ ولأنّه زنًى بعد إحصان فكان حدّه الرّجم كالّذي لم يرتدّ . ونظراً لأنّ أبا حنيفة يجعل الإسلام شرطاً في الإحصان فالمحصن إذا ارتدّ يبطل إحصانه . وحجّته حديث الرّسول صلى الله عليه وسلم : « من أشرك باللّه فليس بمحصن » . فكذلك المرتدّ لا يبقى محصناً لفقد شرط من شروط الإحصان وهو الإسلام . وبهذا أخذ مالك ، وذهب إلى أنّه إذا ثبت للرّجل والمرأة حكم الإحصان سواء في إحصان الرّجم أو القذف ، ثمّ ارتدّ عن الإسلام فإنّه يسقط عنه حكم الإحصان ، فإن رجع إلى الإسلام لم يكن محصناً إلاّ بإحصان مستأنف . واستدلّ مالك على ذلك بقول اللّه تعالى : { لئن أشركت ليحبطنّ عملك } وهذا قد أشرك ، فوجب أن يحبط كلّ عمل كان عمله .
إحلال
التّعريف
1 - الإحلال في اللّغة مصدر أحلّ ضدّ حرّم ، يقال : أحللت له الشّيء ، أي جعلته له حلالاً . ويأتي بمعنًى آخر وهو أحلّ لغة في حلّ ، أي دخل في أشهر الحلّ ، أو جاوز الحرم ، أو حلّ له ما حرم عليه من محظورات الحجّ . ولم يستعمل الفقهاء ، لفظ « إحلال " إلاّ للتّعبير عن معاني غيره من الألفاظ المشابهة مثل " استحلال ، وتحليل ، وتحلّل ، وحلول " فهي الّتي أكثر الفقهاء استعمالها ، لكنّهم استعملوا " الإحلال " بمعنى الإبراء من الدّين أو المظلمة . وأمّا استعمال البعض الإحلال بالمعنى اللّغويّ فيراد به الإطلاقات التّالية : أ - ففي مسألة الخروج من الإحرام عبّر الفقهاء بالتّحلّل ، أمّا التّعبير بالإحلال في هذه المسألة فهو لغويّ . ( ر : تحلّل ) .
ب - وفي مسألة جعل المحرم حلالاً عبّر الفقهاء بالاستحلال ، سواء كان قصداً أو تأويلاً . ( ر : استحلال ) .
ج - وفي المطلّقة ثلاثاً عبّروا بالتّحليل ( ر : تحليل ) .
د - وفي الدّين المؤجّل إذا حلّ عبّروا بالحلول ( ر حلول ) . الحكم الإجماليّ :
2 - يختلف الحكم بحسب اختلاف إطلاق لفظ ( إحلال ) على ما سبق في التّعريف . مواطن البحث :
3 - يرجع في كلّ إطلاق إلى مصطلحه
إحماء
انظر : حمو إحياء .
البيت الحرام
التّعريف
1 - الإحياء مصدر " أحيا " وهو جعل الشّيء حيّاً ، أو بثّ الحياة في الهامد ، ومنه قولهم : أحياه اللّه إحياءً ، أي جعله حيّاً ، وأحيا اللّه الأرض ، أي أخصبها بعد الجدب ، جاء في كتاب اللّه تعالى : { واللّه الّذي أرسل الرّياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النّشور } . ولم يخرج استعمال الفقهاء لكلمة " إحياء " عن المعنى اللّغويّ ، فقالوا : « إحياء الموات " ، وأرادوا بذلك إنبات الأرض المجدبة ، وقالوا : إحياء اللّيل ، وإحياء ما بين العشاءين ، وأرادوا بذلك شغله بالصّلاة والذّكر ، وعدم تعطيله وجعله كالميّت في عطلته . وقالوا : إحياء البيت الحرام ، وأرادوا بذلك دوام وصله بالحجّ والعمرة ، وعدم الانقطاع عنه كالانقطاع عن الميّت ، وهكذا . وقالوا : إحياء السّنّة وأرادوا إعادة العمل بشعيرة من شعائر الإسلام بعد إهمال العمل بها . يختلف الإحياء بحسب ما يضاف إليه ، فهناك : أ - إحياء البيت الحرام .
ب - إحياء السّنّة .
ج - إحياء اللّيل .
د - وإحياء الموات . والمراد بإحياء البيت الحرام عند الفقهاء عمارة البيت بالحجّ ، وبالعمرة أيضاً عند بعضهم ، تشبيهاً للمكان المعمور بالحيّ ، ولغير المعمور بالميّت .
( الحكم الإجماليّ )
2 - نصّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ إحياء البيت الحرام بالحجّ فرض كفاية كلّ عام على المسلمين في الجملة . وهذا لا يتعارض مع كونه فرض عين في العمر مرّة واحدة على كلّ من استطاع إليه سبيلاً كما هو معلوم من الدّين بالضّرورة ؛ لأنّ المسألة مفروضة فيما إذا لم يحجّ عدد من المسلمين فرضاً ولا تطوّعاً ممّن يحصل بهم الشّعار عرفاً في كلّ عام ، فإنّ الإثم يلحق الجميع ، إذ المقصود الأعظم ببناء الكعبة هو الحجّ ، فكان به إحياؤها ، ولما أخرجه عبد الرّزّاق في مصنّفه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما : لو ترك النّاس زيارة هذا البيت عاماً واحداً ما أمطروا . ومثل الحجّ في ذلك العمرة عند الشّافعيّة والتّادليّ من المالكيّة . ولا يغني عنهما الطّواف والاعتكاف والصّلاة ونحو ذلك ، وإن كانت هذه الطّاعات واجبةً أيضاً في المسجد الحرام وجوباً على الكفاية ، فإنّ التّعظيم وإحياء البقعة يحصل بجميع ذلك . وتطبيقاً على هذا فقد نصّ المالكيّة على أنّه يجب على إمام المسلمين أن يرسل جماعةً في كلّ سنة لإقامة الموسم ، فإن لم يكن هناك إمام فعلى جماعة المسلمين . هذا ولم أجد فيما وقفت عليه نصّاً للحنفيّة على ذلك .
( مواطن البحث )
3 - تناول الفقهاء حكم إحياء البيت الحرام بالتّفصيل في أوّل كتاب الجهاد ، لمناسبة حكم الجهاد ، وهو الوجوب الكفائيّ ، حيث تعرّضوا لتعريف الواجب على الكفاية وذكر شيء من فروض الكفايات وأحكامها ، كما ذكره بعضهم في أوّل كتاب الحجّ عند الكلام على حكم الحجّ . والّذين جمعوا أحكام المساجد في تآليف خاصّة ، أو عقدوا في كتبهم فصلاً خاصّاً بأحكام المسجد الحرام ، تعرّضوا له أيضاً كالبدر الزّركشيّ رحمه الله في كتابه : « إعلام السّاجد بأحكام المساجد » .
إحياء السّنّة
التّعريف
1 - السّنّة : الطّريقة المسلوكة في الدّين . والمراد بإحياء السّنّة هنا : إعادة العمل بشعيرة من شعائر الإسلام بعد إهمال العمل بها .
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث ) :
2 - إحياء السّنّة المماتة مطلوب شرعاً إمّا على سبيل فرض الكفاية ، وهو الأصل ، وإمّا على سبيل فرض العين ، وإمّا على سبيل النّدب . وتفصيل ذلك في مصطلح : أمر بالمعروف .
إحياء اللّيل
التّعريف
1 - الإحياء في اللّغة جعل الشّيء حيّاً ، ويريد الفقهاء من قولهم : « إحياء اللّيل " قضاء اللّيل أو أكثره بالعبادة ، كالصّلاة والذّكر وقراءة القرآن ونحو ذلك . وبذلك تكون المدّة هي أكثر اللّيل ، ويكون العمل عامّاً في كلّ عبادة .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - قيام اللّيل :
2 - المستفاد من كلام الفقهاء أنّ قيام اللّيل قد لا يكون مستغرقاً لأكثر اللّيل ، بل يتحقّق بقيام ساعة منه . أمّا العمل فيه فهو الصّلاة دون غيرها . وقد يطلقون قيام اللّيل على إحياء اللّيل . فقد قال في مراقي الفلاح : معنى القيام أن يكون مشتغلاً معظم اللّيل بطاعة ، وقيل ساعةً منه ، يقرأ القرآن أو يسمع الحديث أو يسبّح أو يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وكلّ واحد منهما قد يسبقه نوم بعد صلاة العشاء وقد لا يسبقه نوم .
ب - التّهجّد :
3 - التّهجّد لا يكون إلاّ بعد نوم . ولكن يطلقه كثير من الفقهاء على صلاة اللّيل مطلقاً .
مشروعيّته :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّه يندب إحياء اللّيالي الفاضلة الّتي ورد بشأنها نصّ ، كما يندب إحياء أيّ ليلة من اللّيالي ، لقول عائشة رضي الله عنها : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينام أوّل اللّيل ويحيي آخره » ؛ لأنّ التّطوّع بالعبادة في اللّيل ، كالدّعاء والاستغفار في ساعاته مستحبّ استحباباً مؤكّداً ، وخاصّةً في النّصف الأخير من اللّيل ، ولا سيّما في الأسحار ، لقوله تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } ، ولحديث جابر مرفوعاً : « إنّ في اللّيل لساعةً لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللّه خيراً من أمر الدّنيا والآخرة إلاّ أعطاه اللّه إيّاه » رواه مسلم ، فهو ممّا يدخل في النّصوص الكثيرة الّتي تحضّ على العبادة .