[font="]وسار إلى بجاية , فبقي ينكر كعادته , فنفي , فذهب إلى قرية ملالة , فوقع بها بعبد المؤمن الذي تسلطن , وكان أمرد , عاقلا , فقال : يا شاب , ما اسمك ؟ قال : عب المؤمن , قال : الله أكبر , أنت طلبتي , فأين مقصدك ؟ قال : طلب العلم , قال : قد وجدت العلم والشرف , اصحبني , ونظر في حليته , فوافقت ما عنده مما قيل : إنه اطلع على كتاب الجفر فالله أعلم , فقال : ممن أنت ؟ قال من كومية فربط الشاب , وشوقه إلى أمور عشقها , وأفضى إليه بسره , وكان في صحبته الفقيه عبد الله الونشريسي , وكان جميلا نحويا , فاتفقا على أن يخفي علمه وفصاحته , ويتظاهر بالجهل واللكن مدة , ثم يجعل إظهار نفسه معجزة , ففعل ذلك ثم عمد إلى ستة من أجلاد أتباعه , وسار بهم إلى مراكش , وهي لابن تاشفين , فأخذوا في الإنكار , فخوفوا الملك منهم , وكانوا بمسجد خراب , فأحضرهم الملك , فكلموه فيما وقع فيه من سب الملك , فقال : ما نقل من الوقيعة فيه , فقد قلته , هل من ورائه أقوال , وأنتم تطرونه وهو مغرور بكم , فيا قاضي , هل بلغك أن الخمر تباع جهارا , وتمشي الخنازير في الأسواق , وتؤخذ أموال اليتامى ؟ فذرفت عينا الملك وأطرق , وفهم الدهاة طمع ابن تومرت في الملك , فنصح مالك بن وهيب الفيلسوف سلطانه , وقال : إني خائف عليك من هذا , فاسجنه وأصحابه , وأنفق عليهم مؤنتهم , وإلا أنفقت عليهم خزائنك , فوافقه , فقال الوزير : يقبح بالملك أن يبكي من وعظه , ثم يسيء إليه في مجلس , وأن يظهر خوفك , وأنت سلطان : من رجل فقير , فأخذته نخوة , وصرفه , وسأله الدعاء . [/font]
[font="]وسار ابن تومرت إلى أغمات , فنزلوا على الفقيه عبد الحق المصمودي , فأكرمهم , فاستشاروه , فقال : هنا لا يحميكم هذا الموضع , فعليكم بتينمل فهي يوم عنا , وهو أحصن الأماكن , فأقيموا به برهة كي ينسى ذكركم . فتجدد لابن تومرت بهذا الاسم ذكر لما عنده , فلما رآهم أهل الجبل على تلك الصورة , علموا أنهم طلبة علم , فأنزلوهم , وأقبلوا عليهم , ثم تسامع به أهل الجبل , فتسارعوا إليهم , فكان ابن تومرت من رأى فيه جلادة , عرض عليه ما في نفسه , فإن أسرع إليه , أضافه إلى خواصه , وإن سكت , أعرض عنه , وكان كهولهم ينهون شبانهم ويحذرونهم وطالت المدة , ثم كثر أتباعه من جبال درن وهو جبل الثلج , وطريقه وعر ضيق . [/font]
[font="]قال اليسع في " تاريخه " : لا أعلم مكانا أحصن من تينملل لأنها بين جبلين , ولا يصل إليهما إلا الفارس , وربما نزل عن فرسه في أماكن صعبة , وفي مواضع يعبر على خشبة , فإذا أزيلت الخشبة , انقطع الدرب , وهي مسافة يوم , فشرع أتباعه يغيرون ويقتلون , وكثروا وقووا , ثم غدر بأهل تينملل الذين آووه , وأمر خواصه , فوضعوا فيهم السيف , فقال له الفقيه الإفريقي أحد العشرة من خواصه : ما هذا ؟ ! قوم أكرمونا وأنزلونا نقتلهم !! فقال لأصحابه : هذا شك في عصمتي , فاقتلوه , فقتل . [/font]
[font="]قال اليسع : وكل ما أذكره من حال المصامدة , فقد شاهدته , أو أخذته متواترا , وكان في وصيته إلى قومه إذا ظفروا بمرابط أو تلمساني أن يحرقوه . [/font]
[font="]فلما كان عام تسعة عشر وخمس مائة , خرج يوما , فقال : تعلمون أن البشير - يريد الونشريسي - رجل أمي , ولا يثبت على دابة , فقد جعله الله مبشرا لكم , مطلعا على أسراركم , وهو آية لكم , قد حفظ القرآن , وتعلم الركوب , وقال : اقرأ , فقرأ الختمة في أربعة أيام , وركب حصانا وساقه , فبهتوا , وعدوها آية لغباوتهم , فقام خطيبا , وتلا : لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وتلا : مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ فهذا البشير مطلع على الأنفس , ملهم , ونبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " إن في هذه الأمة محدثين وإن عمر منهم " وقد صحبنا أقوام أطلعه الله على سرهم , ولا بد من النظر في أمرهم , وتيمم العدل فيهم , ثم نودي في جبال المصامدة : من كان مطيعا للإمام , فليأت , فأقبلوا يهرعون , فكانوا يعرضون على البشير , فيخرج قوما على يمينه , ويعدهم من أهل الجنة , وقوما على يساره , فيقول : هؤلاء شاكون في الأمر , وكان يؤتى بالرجل منهم , فيقول : هذا تائب ردوه على اليمين تاب البارحة , فيعترف بما قال , واتفقت له فيهم عجائب , حتى كان يطلق أهل اليسار , وهم يعلمون أن مآلهم إلى القتل , فلا يفر منهم أحد , إذا تجمع منهم عدة , قتلهم قراباتهم حتى يقتل الأخ أخاه . [/font]